“سيرغي دوفلاتوف”.. يهرّب عبثية الواقع السوفييتي في حقيبةٍ إلى بلاد المنفى

تشرين- راوية زاهر:
(الحقيبة).. رواية تحكي قصة بطلها الروسي سيرغي دوفلاتوف باسمهِ ورسمِه، وتلخّص هجرته نتيجة ظروف قاهرة ألمّتْ به، يحوز على حقيبةٍ بهيئةٍ بلهاء يلفّها حبلٌ حتى لا تفتح.. تبدو الرواية تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية، أو تبدو كسيرةٍ ذاتيةٍ لسيرغي دوفلاتوف (1941-1990) الذي يحمل الرواية – الشخصية الرئيسية في الرواية اسمه الحقيقي دون مواربة، فهي من تأليفه وترجمة الكاتب العراقي الدكتور جودت هوشيار، والصادرة عن الهيئة السورية للكتاب ضمن المشروع الوطني لترجمة الرواية العالمية.

عبقرية قراءة الواقع
(الحقيبة) رواية للكاتب الروسي المعاصر دوفلاتوف، رواية – من وجهة نظري- أجدها تحملُ عبقريةَ قراءة الواقع السوفييتي السابق بأسلوبٍ تهكّمي مرح و شائق، يشاركك الكاتب حكاياته الشخصية الأكثر حميمة فتضحك في بعض اللحظات، وتتأمل معنى الحياة في بعضها الآخر.. بطلُ الرواية هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن سدّت كلُّ الصحف ودور النشر أبوابها في وجهه، فقرر الهجرة، وليس بحوزته سوى حقيبة عتيقة من الخشب الرقائقي، وتحتوي على أشياء ليس بحاجةٍ إليها.. غير أن تلك الأغراض الثمانية التي تحويها الحقيبة ستُشكّل وثيقةً ذاتية، عبثية، فكاهية، بأسلوبٍ ملطّف، مقسمة إلى ثمان قصص مستقلة الواحدة عن الأخرى، والسارد واحدٌ وهو الكاتب وصاحب الحقيبة منزوعة القفل ولكنها غير منزوعة الهوية، فلها مكانها المحدّد، حيث دارت جلّ أحداثها في مدينة (لينيغراد، بطرسبورغ حالياً) التي تعتبر العاصمة الثقافية لروسيا.

مكان وزمان وشخصيات
وكذلك زمانها محدد هو الآخر، فهي الحقبة السوفييتية، أو تجري زمن الاتحاد السوفييتي السابق.. أما شخصيات (دوفلاتوف)، فليست مثل شخصيات تلك الروايات التي كانت في زمن الأدب السوفييتي.. بل على حدّ تعبير المترجم هم أناسٌ أحياء بنقاط ضعفهم وفضائلهم الخاصة في الحياة، وغير مقسمين إلى سلبيين وإيجابيين.
كتب (دوفلاتوف) بدفء عن المهمّشين، ومن ثمّ فأبطاله ليسوا مثاليين كما اعتادت الروايات على تصوير أبطالها، وإنّما تجد الكاذبين والمتبجحين وعديمي الموهبة والعبثيين.. بل حتى الراوي شخصيّاً ليس ملاكاً، ولا يُقدّم نفسه كذلك كما جرت عادة الكتّاب الذين يمتدحون نصوصهم من سيرهم الذاتية.. فقد تفرّد بـ”بلادته” وعدم مبالاته، فقد كان إنساناً ابن عصره.. عاش واقعه، وعانى منه، ولكنه بقي يحتفظ بكرامته الشخصية..
وصف جوزيف برودسكي كتابات دوفلاتوف بأنها نثر أشبه بالشعر، وله إيقاع بديع، وهو من ثمّ لا يفرض نفسه عليك، ولا يتفلسف ولا حتى يستطرد.. فدوفلاتوف كاتبٌ يُصنف حداثياً، عرف سرّ الكتابة الشائقة، فمزج بعبقريةٍ وإبداع بين الجد والسخرية اللاذعة، إذ تبدو كتاباته ظاهريّاً وكأنها نكات مضحكة، ولكن ما إن يتأمل القارئ قليلاً حتى يكتشف ما يخفى بين سطوره وخلف الكلمات من معاناةٍ موجعة لمثقفٍ يحاول الحفاظ على بعضٍ من حريته الشخصية والإبداعية عن طريق السخرية من الواقع المحيط به.

أسلوب دوفلاتوف
لقد طوّر هذا الكاتب أسلوبه الخاص الذي يميّزه عن غيره، فهو بارع في نسج نصّه السردي على نحوٍ ساحر، يكتب عبارات قصيرة موحية، وليست لديه كلمات أو جمل عشوائية أو غير ضرورية، فمن يقرأ قصص دوفلاتوف عن عبثية الحياة لا بدّ أن يضحك أو يحزن أو يسخط.
القصص حملت اسمه الحقيقي، والأحداث شملت حياة أصدقاء حقيقيين، مال إلى وصفها بالخيالية، وما الواقع سوى نقطة انطلاق لإعادة صياغة حقائق الحياة الواقعية وتحويلها إلى عمل فني.
أربع سنوات بعد وصول دوفلاتوف إلى أمريكا، ومن ثمّ وصوله إلى مجده الإبداعي حتى حصد الكثير من الجوائز ولمّ شمل عائلته، وشرائه الكثير من سراويل الجينز والملابس المحترمة وقمصان الكتّان التي أغنته عن فتح حقيبته البالية والزاخرة بملابس عفنة وذكريات الفقر والأسى، لتقوده المصادفة إلى تلك الحقيبة التي جلس ابنه الشّقي عليها، فأعاد فتحها لتفتح عليه عالماً من الذكريات، وتفتح قريحته على كتابة سيرة حياته المرتبطة بكومةٍ من الأشياء، كانت قد تكوّمت أمام ناظريه بعد إفراغه لتلك الحقيبة.

كومة أشياء
“كانت هذه الكومة كل ما كسبته خلال ستة وثلاثين عاماً طوال حياتي في وطني، وفكّرتُ: هذا حقاً كلُّ شيءٍ؟
وأجبت: نعم هذا كلُّ شيء – من ماركس إلى برودسكي، أو هذه حصيلة حياتي، أو ببساطة الحقيبة.”
وهكذا يبدأ سرد الحكايات معنونة باسم كلّ محتوى موجود في هذه الحقيبة، وتفاصيل مبكية تارةً، ومضحكة تارة أخرى.. وعبثية تليق بواقعٍ عبثي بأسلوبٍ يبعث على المتعة والدهشة في آن معاً.
(جوارب كريب فنلندية، حذاء نصفي نخبوي، بزة لائقة مزدوجة الصّدر، حزام ضابط، سترة فرناندليجيه، قميص بوبلين، قبعة شتوية، قفازات سائق)..

وتحت هذه العناوين – الأغراض؛ يدلف عالمٌ من المتعة وتفاصيل حقبة من حياة مبدع هاجرت مهرِّبةً تفاصيل أشبه بوثائق تشي بواقعية السوفييتية المريرة في ذلك الزمن بأسلوب بسيط وواضح موجز، وبإيقاعات فنية لافتة.
الكتاب: الحقيبة – رواية
الكاتب: سيرغي دوفلاتوف
ترجمة: الدكتور جودت هوشيار
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار