فيما أُنتج عن فلسطين أدباً وفنّاً.. الكاتب عمر جمعة: لا زلنا نُخاطب أنفسنا
دمشق – لبنى شاكر:
عام 1972 اغتال الموساد الإسرائيلي، الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني، بعد وضع عبوة ناسفة في سيارته في العاصمة اللبنانية بيروت، وعلى ما ينقله الكاتب الصحفي عمر جمعة، قالت غولدا مائير، وكانت حينئذٍ رئيسة وزراء الكيان الصهيوني: “اليوم قضينا على لواءٍ مسلح”، وفي هذه الكلمات، استشعارٌ كما يرى جمعة لخطورة فعل الكلمة والفن في مواجهة ما يُزيفه الإسرائيلي من حقائق وما يُروّج له من أباطيل باستمرار، وما أفعاله اليوم في “طوفان الأقصى” إلا امتدادٌ للمنهجية التي يسير وفقها منذ عقود.
الحديث عمّا قدمته الآداب والفنون في ميدان القضية الفلسطينية، يتشعّب من تلقاء نفسه، فالبعض ينظر إلى ما قُدّم طوال عقود، من زاوية المُوثّق المعني بالتأريخ والحفظ، مع فداحة الخسارات واستمراريتها على الأرض، وهناك من يبحث عن منهجية واضحة استند إليها أصحاب المُنتج الأدبي والفني، وهؤلاء يرون أنّ التجارب والآراء الشخصية المُتفرّقة كانت طاغية، لكن هل بالإمكان فعلاً القبض على ملامح أو نقاط بارزة يمكن اعتبارها محدداتٍ في هذا السياق؟
المكان والشخصية
يتحدث جمعة، على هامش مُشاركته في ندوة استضافها المركز الثقافي في أبو رمانة، في ذات الموضوع، عن الفنون والآداب كأدوات مواجهة حقيقية مع الإسرائيلي، وما قول مائير عن اغتيال كنفاني إلا دليلٌ دامغ، ومعروفٌ أن البعض دفع حياته ثمناً لموقفه ومُنتجه أمثال ناجي العلي وماجد أبو شرار، ومن ثم يرى بروز الرواية والشعر والقصة كمكونات ساهمت في تحديد المصير الذي ستؤول إليه ذاكرة الشعب الفلسطيني، هل ستذهب باتجاه النسيان أم الرسوخ في الأرض والتمسك بحقي التحرير والعودة؟، فيما ذهبت فنونٌ كالتشكيل والسينما والمسرح والنحت، نحو التعبير برأيه عن هم وانتماء الشعب الفلسطيني، وكان انحيازها لدراسة الشخصية الفلسطينية واضحاً.
الرواية الصهيونية سبقت الفلسطينية في الزمان والمكان والانتشار
لكن ما يُمكن التوقف عنده إجابةً على سؤالنا، هو الدور الذي قامت به الفنون والآداب في حفظ الذاكرة، وهنا سنلاحظ كيف ركّز الكثير من الكتّاب الفلسطينيين على المكان، يُضيف جمعة في حديثه لـ “تشرين”: “الاستيلاء على فلسطين التاريخية بذاكرتها وأُناسها وأمكنتها حتى بحضارتها التي تُمحى اليوم، مع تهديم المساجد والكنائس والكثير من المعالم والأسواق القديمة في غزة، لطالما كان غاية عند الإسرائيلي، وفي المقابل كانت الأرض/ المكان/ المدينة، حاضرة في روايات كثيرة منها “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني، “يافا تعد قهوة الصباح” لأنور حامد، “مدينة الله” لحسن حميد ويحكي فيها عن القدس، “ظل آخر للمدينة” لمحمود شقير، “وداعاً يا ذكرين” لرشاد أبو شاور، انحيازٌ نحو المكان الذي بدأ يتسرب من بين أصابع الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948، إضافة إلى ما قدمه القاصون والشعراء أيضاً”.
كذلك يتوقف جمعة عند محاولات محو الذاكرة من خلال التأثير على الشخصية الفلسطينية بالتهجير والإبعاد والنفي، وتقسيم فلسطين بين ضفة وقطاع، بين مدن 48 وما بعد هذا التاريخ، وهنا كان الأدب والفن مُشاركين في الحفاظ على الهوية، ويتذكر تأكيد الشاعر الكبير محمود درويش هنا “سجّل أنا عربي”، يقول: “هذه الكلمات صرخةُ دفاعٍ عن هوية وشخصية الفلسطيني”.
يجب على المؤسسات المعنية تبني ترجمة الروايات الفلسطينية لنتمكن من مخاطبة الآخر بآدابنا
ما سبق عن القضية الفلسطينية، كان له عمقٌ عروبيٌّ وعالميٌّ، حيث قدّم الروائيون والفنانون العرب وغيرهم في مختلف الدول، روايات ولوحات وأفلاماً وقصائد فلسطينية الهوى والمعنى، لكن هذا كان جلياً كما يقول جمعة في سورية، ولا سيما أن فلسطين جزء من ثقافة الشعب السوري، ويذكر حضور السينما في “المخدوعون”، “رجال في الشمس”، “الأبطال يولدون مرتين”، وفي الدراما التلفزيونية الأيقونة الكبيرة “التغريبة الفلسطينية”.
نحن والآخر
غير أن الفنون والآداب التي نتحدث عنها توجهت دائماً إلى محيطها العربي، وربما أفقدها هذا الاقتصار شيئاً من الجدوى، يقول جمعة: “ربما يجب أن نعترف أولاً بأن الرواية الفلسطينية أنتجت فقط خمسين عملاً عن مدينة القدس، حسب الناقد الفلسطيني حسن عليان في كتابه عن الرواية الفلسطينية، وهذا تقصيرٌ بيّن، مُضافٌ إليه أننا حتى اليوم نُخاطب أنفسنا والعرب، فيما يجب أن نتوجّه إلى الآخر الذي ما زال مقتنعاً حتى اللحظة إن للكيان الصهيوني حقاً في أرضنا، بالطبع الرواية الصهيونية كانت سابقة في الزمان والمكان والانتشار، وربما ساعدت الماكينة الإعلامية الغربية في هذا، من دون أن نتجاهل عامل اللغة أيضاً، فرغم انتشار العربية الواسع بكثير، لكن تلك الأعمال المكتوبة بالعبرية تُرجمت إلى الألمانية والفرنسية والإنكليزية والروسية، من الواجب على المؤسسات المعنية على المستوى الفردي والجماعي أن تتبنى ترجمة هذه الروايات لنتمكن من مخاطبة الآخر بآدابنا، خاصة أنه اليوم يرى كيف يرتكب الكيان المحتل أبشع إبادة في التاريخ، ويخرج في تظاهرات وحملات تضامن عالمية مع فلسطين، يجب أن يقتنع الآخرون بأن “إسرائيل” ليست سوى محتلٍ منذ البداية”.
ناجي العلي وماجد أبو شرار دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم في الكلمة والفن
قطرة دم
ما يجب قوله أيضاً، والكلام لجمعة، أن ما أُنتج من فنون وآداب، لا يرتقي إلى قطرة دم بذلها الشهداء، من يُغيرون وجه التاريخ ويصنعون بدمائهم نصراً حقيقياً، أسقطوا الرواية الصهيونية وأجهضوا محاولات التطبيع وتسليع القضية، الفلسطيني يحب الحياة ولا يريد الموت لكنه يدفعه عن نفسه.