حب على طريق الحرير.. سورية بعيون “يانغ يا دينغ”
تشرين – وصال سلوم:
تميزت “تشرين” باستقطاب العديد من الكتّاب العرب، وخاصةً في زمن الحرب العدوانية عليها، فكانت روءاهم العربية تحليلية سياسية من المغرب والأردن مصر وفلسطين.. يكتبون فيها ويساندون قضاياها ويدافعون عن حقها في الدفاع عن أرضها وسيادتها.. ورغم اختلاف لهجاتهم ولكنة حروفهم إلا أن اللغة العربية والمحبة لجغرافية وأهل الوطن سورية كانت القاسم المشترك لتنضيد مادة وجدانية تفوح شهامة وأصالة وقدرة سياسية ولغوية بليغة في تحليل واستهجان ورفض الحرب العبثية على قلب العروبة النابض سورية.
رسالة من الصين
واليوم ومن بريد قرائها كانت رسالة المحبة من الصين الشعبية، من طالب لغة عربية في جامعة (شيآن) للدراسات الدولية -الصين، هام حباً بسورية.. سورية التي عاش فيها والده خمس سنوات ودرس اللغة العربية في جامعة دمشق، وخلالها عرف حاراتها وضواحيها وتذوق هيل قهوتها وحلوياتها الشامية ونقل لعائلته تفاصيل يومياته الدمشقية ليكون الابن الوارث في جيناته من الأب والجد، الحب والاحترام لدولة بحجم سورية.
“يانغ يا دينغ” أرسل لبريد صحيفتنا الإلكتروني، تفاصيل حلم ومقاربات ما بين نهر بردى والنهر الأصفر والجامع الأموي وسوق الحميدية وجامع هواجو شيانغ وسوقه.. وطاف حباً بحلب وتدمر ولم ينس التركيز على بث الطاقة الشبابية الإيجابية وإرسال الكثير من التحايا والأماني الخيرة للوطن الذي يعشق وهو صيني الجنسية:
حُلُمي السُّورِيُّ
كلُّنا يحلم؛ فالأحلام جميلةٌ، ولكلِّ واحدٍ منَّا أمنيةٌ؛ فالأمنيةُ تحفّزُ الإنسان على العمل والتطلُّع؛ وحينما تمتلك حلمًاً، ستبدو حياتك أجملَ، وسيغدو أفق تفكيرك أوسعَ وأرحبَ، يمنحك القوَّة نحو التقدُّم إلى الأمام.. ها أنذا أيضاً لديَّ حلمٌ، حلمٌ عاديٌّ وبسيط، اسمحوا لي أن أحدِّثكم عنه:
لطالما كان شغفي وحلمي أن أتعرَّف بلداً سمعتُ عنه وأحببته، ألا وهو «سوريَة». ولطالما كانت رغبتي أن أعيش تجربة حياةٍ مختلفةٍ عن تلك التي أعيشها في بلدي، أن أعيش عاداتٍ وتقاليدَ مختلفةً حلوةً، فأغني ثقافتي، وأزيد اطلاعي، لاسيَّما أنَّني أحببت ما سمعته عن هذا البلد، وعاداته، وتقاليده، مّا زاد شغفي لتعرُّفها عن قرب، وشوَّقني رؤيتها، وبات هدفي الأسمى أن أغدوَ جسراً لتواصل الثقافات بين البلدين.
اسمي (يانغ يا دينغ)، ومعناه السعادة باللُّغة الصينيَّة، فاسمي العربي «سعد»، ويعني لي هذا الاسم أن أتحدَّى نفسي، أن أسيرَ بعزيمةٍ صادقةٍ نحوَ هدفٍ قد رسمته، ويعني تحقيقَ حلمي متحمِّلاً الصعوباتِ والضغوطات كلِّها؛ فأتخطاها، كما يعني لي الأُنْسَ والفرح النابعينِ من داخلي حين وصولي إلى نهاية الرحلة.. هذه هي السعادة بالنسبة لي، وهذا ما يعنيه لي اسمي.
وُلِدْتُ في مدينة « شيآن »، وترعرعتُ فيها، هي المدينة المعروفة تاريخيًّاً بأنها نقطةُ بداية طريق الحرير، وهي مكان تلاقح الثقافات على مدى آلاف السنين؛ مَا جعل قلبي مفعماً بالتطلُّع إلى الثقافات الأجنبية الأخرى، وتعرُّفِ جمالِ البلاد الأخرى، وسببُ ذلك الشغف، ربَّما تتساءلون: لماذا؟
حين كنت صغيراً، سمعتُ من جدي مراراً عن مكانٍ يبعدُ عنَّا كثيراً، هناك في الشـرق الأوسط الغامض، حيثُ الناسُ بوجوهٍ مختلفةٍ، وملابسَ مختلفةٍ، وعاداتٍ وتقاليدَ مختلفةٍ، وطرازِ أبنيةٍ مختلفةٍ، بل إنَّ طريقةَ الأكل على المائدة مختلفةٌ عمّا نحن عليه.
ثمّةَ دولةٌ جميلةٌ تُدعى «سورية»، تمتلك كما الصين حضارةً قديمةً وعريقةً، وينتهي عندها طريق الحرير الذي كان قد بدأ في بلدنا. وهذا ما جعل تفكيري مأسوراً بها، متأملًاً ومتسائلًا، فأفكر في قلبي؛ ترى ما طبيعة هذا البلد الذي يجعل عَينَي جدّي تلتمعانِ كلَّما حدَّثني عنه؟!
منذ ذلك الوقت، بدأ يلوح لي في الأفق أنَّني حدَّدتُ في نفسـي هدفاً وحلماً سأبدأ بالسعي لتحقيقه، لا بدَّ أن أتعرَّف بصورةٍ جيِّدةٍ وواضحةٍ، هذا البلد الذي أسرني جمالُ الحديث عنه، وشعرتُ بعشقٍ يسري في عروقي، ويشدُّني لأتعمَّقَ بتعرُّفه أكثر، ها قد حدَّدْتُ هدفي ورسمتُ حلمي. وحين كنتُ أدرس في الثانوية، حدَّثنا المدرِّسون في المحاضرات عن بعض المدن في «سورية»، قد غمرها التاريخ لقرونٍ طويلة، وذكرتها قصص «ألف ليلة وليلة»، وهذا ما جعل رغبتي في تعرُّفِ هذا البلد تلحُّ عليَّ أكثر فأكثر.
في عام «2021». قبلتني جامعة «شيآن» للدراسات الدوليَّة بدرجة ممتاز، فاخترتُ التخصُّص في اللُّغة العربيَّة، دون تردُّدٍ، فهذا ما يجعلني أخطو نحو تحقيق الحلم بخطواتٍ ثابتةٍ، فأكثرتُ من القراءة في التاريخ، والثقافة السوريَّة، ومتابعة كلِّ ما يخصُّها. قرأت في مكتب الجامعة مرَّةً مقالةً تقول: « إذا كانَت ثمَّة جنَّةٌ على الأرض، فيجب أن تكون دمشق». هذه المقالة جعلتْ حلمي يراودني كلَّ يومٍ، سوريَة! سوريَة! سوريَة! أينما كنتُ أو حللْتُ يلاحقني اسم « سورية »!.
يقول المثل الصينيُّ: « الإنسان يحلم في الليل بما يفكر بالنهار ».. هذا ما عرضَ لي في فترةٍ زمنيَّةٍ معينةٍ، فبتُّ أرى في المنام المشاهدَ والمناظر التي أتخيَّلها بعد القراءة والمطالعة عن «سورية». لم لا؟! كيف يمكن أن يستغني الحلم الساحر عن بساط الريح العربيِّ؟
أتخيَّلُ نفسي على بساط الريح أطير فوق مدينة أحلامي، أحلِّقُ فوق نهر بردى في دمشقَ، وأرى تلك المساكن العربيَّة المتميِّزة، المختبئة في الواحة الخضراء المورقة، فأتذكّرُ نهر الصين الأم (النهر الأصفر)؛ حيث يعيش الشعب الصينيُّ، ويتكاثر على طول النهر منذ العصور القديمة حتى الحاضر، فعرفت أنَّ للمدن العظيمة دوماً نهراً أمّاً، سأمرُّ فوق مدينة دمشقَ القديمة، أعبر من بوابة يصل ارتفاعها عشرة أمتارٍ، وأصل ساحة الجامع الأموي ذي الطراز الإسلاميِّ الساحر، وأطير من فوق مئذنة الثلاثة الشاهقة، أصغي السمع للأذان والتلاوة العطرة، مشهدٌ يذكرني بالغناء وتنسيقاته على الطراز الصيني التقليدي في جامع «هوا جو شيانغ » في مدينتي؛ «شيآن» وببرج التفكير فيه « شين شي قه»، ثم خرجت من الجامع، وإذا نحن في السوق، وأكثر ما يعجبني ذلك الممرُّ الممتدُّ من الجامع الأموي إلى بداية سوق الحميديَّة، ذلك السوقُ الأثريُّ القديم الذي تُعرَضُ فيه كلُّ الأشياء التقليديَّة من ثيابٍ وأوانٍ فضيَّةٍ ونحاسيَّةٍ، وأشياءَ رائعةٍ تسحرُ العين، وتأسرُ الفؤاد، هذا يشبه تماماً الشارع التجاريَّ شرق جامع “هوا جو شيانغ» في «شيآن»، حيث تبيع المتاجرُ التُّحفَ والهدايا التذكاريَّة لمدينة «شيآن»، بالإضافة إلى الأكلات الشعبيَّة والتقليديَّة الشهيَّة الخاصَّة.
بعد هذا، سأحلِّقُ فوق حلبَ الشهباء؛ المدينة الأثريَّة المشهورة، ذاتِ الأبوابِ السبعة، سأجدُ في شوارعها الطويلة الضيِّقة محلَّاتِ بيع التُّحفِ والهدايا مع أصوات قصفِ المقارع الخشبيَّة منها والمعدنية فوق صفائح النُّحاس بإيقاعٍ متواتر، يا لها من حركاتٍ نشطةٍ بالشوارع! هناك رائحةٌ فريدةٌ للبهارات العربيَّة، تنبعثُ من عربات بيع الأكلات الشعبيَّة اللذيذة في الهواء، مَا يجعل الناس يشعرون، وكأنَّهم في مشهد (ألف ليلة وليلة)، هناك أيضاً قلعةٌ قديمةٌ يعود تاريخها إلى آلاف السنين في المدينة، كلُّ هذا يذكِّرني بأسوار مدينة «شيآن»، وبوّاباتها، وحياة الشعب هناك، صاحب التاريخ الطويل والعريق في بناء المدن، فشعبنا شاهدٌ على تاريخ البشـريَّة وثقافتها.
أخيراً، أخذني بساط الريح إلى مدينة تدمرَ، عروسِ الصحراءِ السوريَّة، نقطة نهاية طريق الحرير، مَجْمَعِ الطرق التجاريَّة في الزمان القديم، سأمرُّ فوق آثارها وأعمدتها الرومانيَّة التي تتحدَّث عن ماضٍ عريقٍ، ومجدٍ عظيم.
في لحظةٍ ما عدتُ من عالم الخيال إلى الواقع مُصِرًاً على تحقيق الحلم، وأصبحت على ثقةٍ تامَّةٍ بتحقيق حلمي، وقلتُ لنفسـي: لا بدَّ أن أذهب إلى هناك حاملاً معي تحيَّاتِ شعبي في « شيآن »؛ مركز انطلاق طريق الحرير إلى شعب «سورية»؛ مركز نهاية طريق الحرير.
سأروي لهم ما حدث وما يحدث على هذه الأرض الشرقيَّة، البعيدة، الساحرة من القصص الشيِّقة الجميلة، والإنجازات العظيمة التي حقَّقها الشعب هنا، لتثبتَ الصين وسورية للعالم جميعاً أنه يمكن للثقافات، والمجتمعات، والأمم، والمعتقدات المختلفة أن تنتجَ منتجاتٍ حضاريَّةً متشابهةً، وربما كان هذا التشابهُ الجميل ليس محض مصادفة.
في هذه اللحظة، ما زلتُ أنا الطالب الجامعي الذي يدرس اللُّغة العربيَّة، وسأواصل دراستي بجدٍّ واجتهاد، فأحقِّقَ حلمي، بأن أكونَ جسـراً يربط الصين بسورية، وأن أشارك الشعبينِ فرحةَ تحقيق هذا الحلم، وقصةَ اسمي، ومعناه الجميل.
ندعو نحن – شبابَ الصين – الشعبَ السوريَّ أن يشاركنا يداً بيدٍ في إعلاء روح طريق الحرير، لنرسمَ سويّاً طريق الحرير الجديد، ونحقِّقَ المنفعةَ المتبادلةَ، والفوزَ المشترك؛ لبناء مصيرٍ جميلٍ مشتركٍ للبشريَّة.
إنَّني مستعدٌ أن أكون رسولاً للصداقة بين الشعبين، ناشراً ثقافتي الصينيَّة للجميع، ومساهماً في بناء الطريق والحرير.
أخيراً، هل تعتقدون أنَّ الحلم هنا قد توقَّف؟
لا، بكلِّ تأكيد، فرحلةُ الحياة لن تتوقَّف، ولن تتوقَّف معها الأحلام والأمنيات حتى نهاية الحياة.