الاقتصاد في الثرثرة غزة أنهت عصر الالتباس 

تشرين- ادريس هاني: 

– إن كانت الغاية من الترافع ضدّ الاحتلال هو إيقاف حرب الإبادة، كما يروج في الخطاب الإعلامي كهدف من المحاكمة، فهذا ضرب من “المُلاوغة” الإعلامية-القانونية، إنّ أي مرافعة هي بالضرورة تستهدف تجريم محتل في أصل الجرم الاحتلالي، وإنّ جريمة الحرب هي مدخل لتجريم من يساند الاحتلال في إبادة شعب، جريمته الوحيدة، أنّه يدافع عن نفسه، ويخوض كفاحاً تحرّرياً، هذا وقد كشفت مرافعة جنوب إفريقيا ضد الاحتلال في محكمة العدل، كم هي هشاشة الاحتلال القانونية، وبأنّه لا بدّ من الاستثمار السياسي والقانوني في هذه المعركة.

– هذا السّقوط المدوّي لضمير الغرب، ليس أمراً جديداً، ولا يمكن توقيت المواقف بطوفان الأقصى، هذه الأخيرة هي القشّة التي قصمت ظهر البعير، لكل شيء تاريخ، وتاريخ الجريمة ممتدّ، لا يمكن أن نتحدّث عن قطيعة كما يفعل البعض، كما لو أنّ الاحتلال لأوّل مرة سيُجرم في حقّ الشعب الفلسطيني.

– خطاب المسؤولين الغربيين هو الأسوأ من نوعه في تاريخ التّفاهة، إنّهم في كلّ يوم يمرّ على غزة، يجدون أنفسهم في مستنقع من المغالطة لن يخرجوا منه إلاّ بعد أن يسقط هذا الغرب الحاضن للاحتلال، أو يسقط الاحتلال الذي رهن مصيره بالإمبريالية التي لا تريد الاعتراف بأنّها خسرت منطق قلب العالم، هذا في الوقت الذي يتحدث المسؤول البريطاني عن روسيا كما لو أنّها دولة ضعيفة من دول العالم الثالث، وبأنّ بوتين عليه أن لا يستغل انشغالنا في غزة، ليستفردة بأوكرانيا، إنّ الغرب هو الآخر سجين نزعة احتلالية مزمنة، وهو اليوم يستخفّ بالمسيرات والاحتجاجات الشعبية، فعندما يتعلق الأمر بفلسطين، تنتهي الديمقراطية، والحكم بالاستحقاق أو حتى بالنقاش، ينتهي النقاش العمومي، تظهر الغريزة الأولى لغرب مازال يؤكد أنّه أكبر مجرم في تاريخ النوع، ولعل أكبر جريمة يرتكبها هي انتهاكه المفرط للقيم الإنسانية والتنوير الذي قادته نخبة التحرر والنهضة قبل أن يستولي عليه قراصنة الميركانتيلية، آباء اليبرالية المتوحّشة.

– من سوء حظّ الغرب أن نزاعين بينهما عموم وخصوص من وجه، تشهدهما منطقتان مؤثرتان على مصير النظام العالمي: أوراسيا والشرق الأوسط، ومهما بلغ أسلوب الاستخفاف بالآثار الموجعة لهذه الحروب، فإنّ العالم بعد حرب أوكرانيا ليس هو العالم ما قبلها، وأنه بعد طوفان الأقصى ليس العالم كما قبله، ليس في مصلحة الغرب أن يعترف، لأنّه أدمن على النزعة الهيغلية في الصراع، وهي نفسها النزعة التي تنتهي بالسقوط الحرّ للعالم “الحرّ”.

– يخشى الغرب اليوم اتساع رقعة الحرب، غير أنّ الحرب كالنار في الهشيم، تحتاج إلى إطفائيين، ولا وجود لإطفائي حقيقي مع وجود تعنت ممسرح لاحتلال فقد القدرة على الحسم في الحرب، إنّه لا يتحمّل هدنة يكون فيها الرابح هو المقاومة، لكن إلى متى؟

– تبدو الجبهات حول الأراضي المحتلة ملتهبة، جنوب لبنان لم يتوقف، البحر الأحمر وباب المندب، العراق، رشقات في أربيل، هناك من يرى ذلك وهناك من لا يرى ذلك، لكن المعادلة قائمة واضحة، وهي بنت تاريخ طويل وليست بنت الأمس، من البساطة أن نتحدث عن الوضع اليوم، بينما الوضع الراهن هو حصيلة بناء، لطالما تعرّض للهدم عبثاً.

– ومع أنّ تصريحه ليس مهماً ولا أثر له على سير الأحداث التي يصنعها الفرسان، لا في ميزان الجغرافيا السياسية ولا تاريخ التحرر الوطني، أجد من الضروري أن أقف عند تصريح لرئيس الحكومة الأسبق بن كيران الذي لا يوقّر أحداً، ولا يراقب “بوزه” جيداً، والذي على طريقته في “المُلاوغة” اللاّنهائية، لا يجد بديلاً عن الاعتراف بأولئك اليمنيين الذين خاطروا بمصالحهم تضامناً مع غزة، لكنه يفرش لحديثه بمقدّمة عدوانية، مفادها أنه نحن لا نثق في هؤلاء وفي ارتباطاتهم المشبوهة بإيران، ثم يتحدث عن أنه متأسف لغياب موقف كبير من العالم الإسلامي، هذا القرف الطائفي في التعبير، في وقت ادعى فيه أنه يتحدث عن أننا أمة واحدة، يلخّص الأسباب الموضوعية لتخلّف العالم العربي والإسلامي، لا يمكن الحديث عن القضايا بما فيها الكبيرة دون أن نسقط في التبسيط الدعوي واللّغو الطائفي.

في عملية تربيح المقاومة جميلاً بالكاد، وكأنه هو المعني بفلسطين وليس أهلها المنخرطين في محور المقاومة، وكأنه بالكاد يمكننا أن نقبل بمن يساعد فلسطين في حدود هذه القضية؟ هل يحتاج هؤلاء إلى صك غفران ممن ليسوا عنصراً في هذا المحور؟ ألم يكونوا منذ البدء منخرطين في خطاب الإمبريالية والرجعية، ومناهضين لمحور المقاومة؟ ومن تكون حتى تشكك في نيات ملايين من البشر أهدوا مهجهم في معارك الصمود؟ وهل أنت ثقة موثوق حتى تحكم بوثاقة من هم في المحرقة أو عدمها؟ وكيف تتسامح في هجاء من هم في قلب المحرقة، وتتلوّى في تبرير ما يصدر منكم من عجر وبجر؟ متى كنتم ضد أمريكا حيث اليوم ملأتم الدنيا بهجائها، بينما الصلة موصولة، من زحف وفود التدريب على الديمقراطية، من أول خطاب في الإيباك وكارنيجي حتى معانقة برونشتين وإمضاء عقد فاوست؟ هل بعد التوقيع التاريخي، يبقى وجه لتوزيع الأحكام حول من هو الثقة ومن هو غير الثقة في معركة «مافيها يا أمي ارحميني»؟ في معركة ليس لك منها سوى لعبة الألفاظ؟ لماذا لا توقّرون من هم في هذه المعادلة طلائع وليسوا مناضلين بالمراسلة؟ هذا الخطاب الطائفي نذمّه من هذه الجهة أو تلك، ولا أريد أن أقول أكثر من ذلك، ولكن ردّي هو تكليف شرعي.

– وكان متوقّعاً أنّ حكومة الفنادق ستغتنم الفرصة لدعوة القوى الإمبريالية لاحتلال اليمن، اعتقاداً منها أنّ البقرة سقطت وأنّ وجبة من التدخل ستحصل، الدعوة نفسها التي انطلقت من وكر آخر من أوكار العمالة، هذا كلّه طبيعي، لكن ما ليس طبيعياً هو أن لا تكون حيث يجب أن تكون.

– ثمة من يقول إنّ ما يحدث هو ركوب موجة الأحداث، والحقيقة إن كان الركوب يستند إلى كل هذه التضحيات، فهو أولى من ركوبها بـمجرد «طأة حنك»، إنّ ما أمقته وسأمقته دائماً، هو لغة المزايدات والسمسرة، سواء في أباعد الساحات أو  أقاربها، الانتهازية والسمسرة مُدانة حتى لو وُجدت داخل محور المقاومة، وجود طفيليات هو أمر طبيعي، لكن في أباعد الساحات بلغ الأمر حالة الجرب.

– ترقيع مسار النضال، يفضحه التّاريخ، تلك الصخرة الثقيلة التي لن يتحمّل رفعها السماسرة، أنصح سراق الله ألا يدخلوا معي في بوليميك، وليستمرّوا في الكذب على الرّأي العام القريب والبعيد، فمن جهتي سأصفّق لصفاقتهم، وأقول لهم: واصلوا عجركم وبجركم، ستربحون سكوتر.

– ولأنه لا بدّ من نهاية لهذه الوجبة من الغطرسة الجبانة لاحتلال صهيوني فقد عناصر الصمود والبقاء، فالخوف من خطة باء، وهي تحريك الدومينو لتحقيق حلّ الدولة الواحدة على طريقة جنوب إفريقيا، وهو قياس خاطئ جداً، لأنّ الشروط مختلفة على الرغم من التشابه في جوهر الأبارتهايد، لم تعد فلسطين بعد الطوفان، مهيّأة لحلّ الدولتين، وذلك لأسباب فضحتها السياسة الفاشية لاحتلال يراهن على التوسع والتهجير، ولم تعد أيضاً تتسع لحل الدولة الواحدة، لأنّ كل المؤشرات تؤكد عدم واقعية هذا الحلّ.

هناك محاولة للحؤول دون الهجرة المعاكسة، فالغرب لن يقبل بهم، ولذلك صبهم كلعنة أبدية في قلب الوطن العربي، هناك مقدّمات على طريق اختبار عناصر الخطّة باء، وهو أمر نترك الحديث عنه إلى حين.

كاتب من المغرب

 

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار