الأدب الوجيز يتوهّج ويستنهض إشكاليّته في اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين
تشرين – لمى بدران:
جنونُ الشِّعر لا يهدأ وما إن ينته ِ… يبدأ
ووحدي تائهاً أمضي كملّاحٍ.. بلا مرفأ
أُطاردُ نجمةَ الرُّويا على شبّاكيَ المُطفأ
لتُشعلَ فيَّ جمرتها وما لا يشتعل يصدأ
الأبيات الشعرية التي نبتدئ بها هذا المقال، هي من رباعيّات الشاعر الفلسطيني صالح هواري الذي يجسّد في تجربته الإبداعية الطويلة والتي تتجاوز الخمسين سنة أنموذجاً يهتمُّ المختصون به بعد ظهور الأدب الوجيز في سورية ولبنان وغيرهما من الدول العربية.. والذي نظرّ له البعض على أنه جنس أدبي مستقلّ بينما وجده آخرون أنه لا يعدو أن يكون إطاراً يتسعُ لعشرات الأنواع الأدبية التي تميلُ إلى قُصارى القول..
رباعيّات بعيد نضوج
إشكاليات وتنويعات الأدب الوجيز، كانت مؤخراً سجالاً واسعاً لندوة أقامها الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين في دمشق، شارك فيها الكثير من المهتمين بالأدب الوجيز تنظيراً وتقعيداً وبحثاً وكتابة.. منهم الزميل على الراعي الأكثر اشتغالاً في هذا المجال منذ ما يُقارب الخمس عشرة سنة، والدكتور بكور عاروب، والشاعر صالح هواري، والشاعر أكرم صالح الحسين، والقاصة إلهام بركات، والشاعر سلمان السلمان وآخرون..
هواري: كنت أضع في القصيدة كلً شيء حتى كانت الرباعيّات
وبالنسبة للشاعر صالح هواري فقد كانت (رباعياته) زبدة تجربة طويلة من الكتابة من المطولات الشعرية حيث يقول: مرّت قصائدي ونصوصي بمستويات مختلفة على مدار السنوات ويقول بجرأة: كنت نَظّاماً.. أسرد وأسرد لأحقق التجربة الشعرية.. حيث أحب أن أقول كل شيء في القصيدة، لكن بعد الامتداد الزمني لهذا الدفق في التعبير أخذ نَفَسي الشعري يذهب في اتجاه الإيماض عن طريق التكثيف وحصلتُ على الزبدة فصارت القصيدة عندي قصيدة ومضة…،
وهذا ما قد يوحي لنا بمميزات تخص الأدب الوجيز وهي أن يكون الكاتب ذا تجربة غنيّة وثقافة عالية ومتمكّناً من أدواته ليحقق أكبر قدر ممكن من التكثيف، بمعنى أن التجارب الشعرية المبكرة في ولادتها غالباً قد لا تستطيع أن تعطينا نصوصاً تُحرّض أو تستفز أو تحيي شرارة التعبير من الحكائية العالية والمشهدية الفاخرة الخاصة بالأدب الوجيز.
علّمتني وعلّمتني الحياةُ
فامّحى الشك وانجلت ظلماتُ
وجّهتني بفضلها ورعتْني
رِعيةً أُفردت بها الأمهاتُ
فمن الشوق تنهل العبراتُ
ومن الجب تنبع الذكرياتُ
فإذا فاض بالسداد بياني
قلتُ: هذا ما علّمتني الحياةُ
الومضة السابقة كانت من أواخر بنات أفكار الشاعر أنور العطار وهو ديوان رباعيات “علمتني الحياة” والأبيات السابقة هي مما كتبه في رباعياته الأولى، ويجسّد العطار أنموذجاً ثانياً يتقاطع ويتشابه في العديد من النقاط مع الشاعر صالح هواري – على ما يرى الدكتور بكور عاروب- حيث جمع في أدبه نتاجات علمه الواسع واطلاعه الكبير وغوصه العميق في تراث الأدب العربي والآداب العالمية الأخرى وبخاصةٍ الأدب الفرنسي كما التفت مبكّراً لشعر أحمد شوقي والبحتري.. ولو بقي على قيد الحياة – بُضيف عاروب – لشهدَ هذه الندوة التي أقامتها جمعية الشعر بالاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين من أجل محاولة الكشف عن ملامح الأدب الوجيز وشروطه وربما السير نحو منهجيته من خلال استحضار ما أمكن من النصوص التي قد تكون أدباً وجيزاً ومنها ما كان قد كتبه هو أيضاً..
قديم قدم الإبداع نفسه
من جهته يؤكّد الأديب علي الراعي وهو من مؤسسي الأدب الوجيز في سورية ومشارك في تلك الجلسة بوجهة نظره الخاصة إذ يرى أن التكثيف يحتاج إلى الكثير من التروّي والوقت الطويل وربما الطويل جداً… وهو ليس دافعه إيقاع العصر السريع فقط بل على العكس تماماً، حيث يعود إلى التاريخ قريبه وبعيده حتى يصل إلى الزمن الإغريقي قبل الميلاد ليأخذ منه الحكايات القصيرة للحكيم “إيسوب” ومن ثم شعر المقطعات في ديوان الشعر العربي قبل الإسلام، وبتقديره فإن الأدب الوجيز ليس أدب الشباب أو خاصاً بالمواهب الجديدة كما يخطر لبال الكثيرين وذكر دلائل كثيرة عن السابقين إليه من كبار الكتاب من نزار قباني، أدونيس، جبران خليل جبران وغيرهم، ويعتقد أنه من الصعوبة وضع تعريف لإبداع لايزال في مهبّ الإشكال والسجال، ويبدو أن النتاج منه لم يكفِ بعد لوضع أركان له، إلا أننا يمكننا تحديد الكثير من ملامحه والتي أبرزها التكثيف والحكائية والشعرية…
الراعي: التكثيف يحتاج إلى التروّي وليس دافعه إيقاع العصر السريع فقط والتاريخ شاهد قريبه وبعيده حتى نصل إلى الزمن الإغريقي قبل الميلاد
ويضيف الراعي: وبعد التكثيف، هناك الحكائية، والشعرية، حيث تتسع الأولى في القصة، فيما تتسع الثانية في القصيدة، وهو الأمر الذي التبس على الكثيرين الشغوفين بالتجنيس، والحقيقة أنه من الصعوبة بمكان التجنيس، فكثيرٌ من الأدباء من يُقدّم نصه حيناً على أنه قصيدة، وطوراً على أنه قصة قصيرة جداً.. فالحكائية حتى يبقى النص في إطار القصة القصيرة جداً، والشعرية لتفجّر الطاقة الكامنة في المفردات ولتزيد من اتساع المعنى، مهما ضاقت العبارة، ولتعوّض عن الحيز المحدود من الكلمات، وهو الأمرُ الذي يظهر في المشهدية العالية، حيث نقرأ لغةً بصرية كمن يكتب بعين الكاميرا.. كما تأتي صعوبة التجنيس من التقنيّات التي تكاد تكون واحدة حيثُ التقنيات البلاغية نفسها في مختلف أنواع الأدب الوجيز، وأفضّل مُصطلح (البلاغة المُضادة) عليها، بمعنى ليست البلاغة التقليدية المُتعارف عليها من: كناية واستعارة وتشبيهات فقط، وإنما يُضاف إليها تقنيات: الحذف، الإضمار، الانزياح، الرمز، ويأتي كذلك: التنصيص، والتضمين وغير ذلك..
عاروب: العطار جمع في أدبه نتاجات علمه الواسع واطلاعه الكبير وغوصه العميق في التراث والآداب العالمية
أنواع متقاربة
بدوره يرى الباحث بكور عاروب الذي أدار الجلسة أن قضية التجنيس هي قضية شائكة في الأدب حيث لا يمكن الفصل المطلق بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والنثر وقصيدة الومضة وإلى ما هنالك من أجناس تتقارب في مكوناتها وهيكليتها الفنية، إلا أننا حسب رأيه نستطيع القول إن التكثيف الواضح الإيجابي هو أبرز سمات الأدب الوجيز الذي يمثّل إشكالية كبيرة في تحديد منهجية خاصة به، كما فتح عاروب باب النقاش لعرض الأفكار ووجهات النظر حول الموضوع.. وألقى البعض قصائده وقصصه في هذا المجال أيضاً..
اللقاء دوري في جمعية الشعر في اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، وربما تكشف الأيام ملامح أوضح وتجارب أشمل فيما يخص الأدب الوجيز،كما يمكن للملتقيات الكثيرة أن تساهم في وضع خطط ومنهجيات تستنهض الأفكار البنّاءة في هذا الشأن وإلى حين ذلك الوقت فإن البحث قائم والحوار مفتوح…