عن رحلتها في عالم الكتابة.. الأديبة إيمان الدرع: يحتاج الكاتب إلى حصانة أكبر تحتضن إبداعه وتشعره بثقة مطلقة في تناول قضايا المجتمع
تشرين- هويدا محمد مصطفى:
كاتبة لها حضورها في المشهد الثقافي والأدبي، وهي تكتب بلغة هادئة وعاطفة عميقة مشحونة بالصوت الأنثوي وبذاكرة التاريخ التي حاولت تجسيدها من خلال أعمالها الروائية والقصصية وتقديمها للقارىء بلغة سلسة بعيداً عن التكلف والغموض.. وتستولد الأسئلة التي تطرحها من خلال أعمالها وتلقي بظلالها على الأحياء المنسية والبيوت الدمشقية والعادات والتقاليد الاجتماعية فكان الواقع حاضراً في كل أعمالها التي نسجتها من العمق.. وقد صدر للكاتبة في مجال القصة: “عيون المها وقصص أخرى، آه لو تشرق الشمس، عبور في ذاكرة وطن، لابدّ أن أعيش، إني آسفة، القمر في لامبيدوزا..”، وفي الرواية صدر لها: “الفرنكة، قمر على ضفاف النيل، حي الطوافرة، لا تذهب بدوني..”.. إنها الروائية والقاصة إيمان الدرع وللحديث أكثر حول تجربتها الإبداعية التقيناها وكان لنا معها هذا الحوار:
النقد هو العين الراصدة للعمل تعزز خطوات الكاتب وتعطيه الركائز الصادقة التي يتجاوز فيها أي عثرة في طريقه الإبداعي
رحلة الحروف
* كيف دخلت الحروف إلى عالمك وبدأت رحلة الإبداع ؟
نشأت ضمن أسرة مثقفة فوالدي محمد خير الدرع خريج الأزهر الشريف بمصر، كان مدرساً للغة العربية وشاعراً متمكناً اعتمدت قصائده في أناشيد الموسيقا للناشئة منذ الخمسينيات مثل نشيد “هيا هبوا يافتيان، علمي علمي يا خفق دمي”.. ووالدتي أيضًا الشاعرة لمياء حلبي تمردت على واقع المرأة الحبيسة ضمن جدرانها في عهدها رغم زواجها المبكر جداً فارتادت المراكز الثقافية وخالطت النخبة من المجتمع المتوازن وثقفت ذاتها وأسست مكتبة غنية بأمّات الكتب وبما لايحصى من الروايات العالمية الشهيرة والدواوين الشعرية لفطاحل الشعراء كما نظمت الشعر ولها أربعة دواوين مطبوعة.. من هنا عرفت الطريق إلى الكتابة حيث كانت مجموعتي القصصية الأولى بعنوان “حكايات وعبر”، وأنا في الأول الإعدادي وقد تباهى بها والداي في كل مناسبة تجمعني بالأهل وبالمحيط الخارجي وسط التشجيع المفرح لكل من قرأ، فيملأ قلبي الاعتزاز بقدراتي حيث تشكلت النواة الأولى لي برعاية أسرتي المتفتحة التي وضعتني على السكة الصحيحة منذ البدايات..
* يرى الكثيرون أن العمل الروائي هو الأقرب للقارىء ماذا تقولين في ذلك؟
صحيح إلى حدّ بعيد حيث إنّ القصة القصيرة رغم جماليتها وفنية اختزالها في رصد الحدث بذكاء واقتدار وتحتاج إلى مهارات وأدوات عارفة متمكنة، إلّا أنها لم تعد تشبع نهم القارئ في محاكاة الواقع والتعبير عنه والغوص في تفاصيله ومعايشة شخوص تشبهه وتلمس أعماق كل من حوله سواء في محيط الأسرة أو الشارع أو المجتمع ككل.. هناك قضايا وتفاصيل لها خيوط حكائية وسرد متشابك، حيث الحبكة تشد القارئ فيرى مرآة ذاته تتحرك أمامه من خلال شخوص من لحم ودم غير بعيدة عنه، الأمر الذي لا توفره القصة القصيرة على أي حال..
لا يزال الكاتب مبتور الكلمة يبتلع نصف السطور ويظهر ما يوافق أهواء الرقابة والمجتمع والأعراف والتقاليد ويخشى دخول التابوهات
تاريخ البيوت
* في روايتك (الفرنكة) هي تعريف القارىء بتاريخ البيوت الدمشقية والعادات التي مازالت موجودة ماذا تحدثينا عن هذه الرواية؟
رواية (الفرنكة) هي الجزء الثاني من الثلاثية الروائية (قمر على ضفاف النيل) حيث رصدت في الرواية الأولى (لا تذهب بدوني) ضمن مجريات أحداثها واقع الحرب المأسوية التي عصفت في بلادي على أيدي الإرهابيين في خضم الأحداث المريرة التي عايشتها في واقع أحرق فؤادي ومدامعي بتفاصيلها وقد أنهيتها بشيءٍ من الأمل بالغد القادم رغم بؤر الإرهاب التي دنست بعض المناطق في خارطتنا السورية الطاهرة حينذاك، أمل مضن ولكني كنت ألامس بزوغ فجره.. أما الرواية الثانية من الثلاثية والتي كانت بعنوان (الفرنكة)، فقد انتقلت من خلالها إلى حيز آخر حيّز الخلاص وقد أشرقت شمس الأمل في استعادة ملامح سوريتي على يدِّ الشرفاء من أبنائها، واخترت الشام العتيقة كرمز جامع للبلد من خلال عشقي لها فقد أمضيت طفولتي فيها وبين حاراتها.. وفي تفاصيل حميمة في بيوتاتها وأسواقها وأمويها وقصورها وخاناتها وزواريبها وتاريخها التليد الذي قاوم أشرس المحتلين والغزاة الطامعين عبر الزمن..
في سبيل البحث عن الذات انقسم الكتّاب إلى شريحتين: الأولى موغلة في اليأس والثانية تكتب برؤية أكثر عمقاً ودراية
كل ذلك رصدته في الرواية من خلال بيت كبير قديم حوَّلته (السيدة إلفت) التي ورثته عن زوجها إلى نزل بديع ضمّ جميع أقسام البيت الدمشقي العريق من توزيع معروف من مضافة وحرملك وشببلك وليوان وبيت المونة والمشرقة والباحة السماوية والبحرة والغرفة الطيارة على السطح.. وللفرنكة حظوتها لأنها مرتفعة ومشمسة وكاشفة وهادئة الموقع ومن خلالها كان الخط الرئيس في الرواية.. والفكرة أن النزل كان يجمع كل القادمين عبر المحافظات السورية المختلفة لأسباب شتى..
مواقع التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين من جهة ذللت الكثير من العقبات، ومن جهة ثانية استسهل البعض الكتابة والنشر لطرح النتاج الهش
* كيف تمّ لك الأمر؟
في البداية كان الصراع بين الأنماط المتعددة هو السائد وكلٌّ يحمل جراح الحرب في روحه الكليمة لتتشابك الأحداث بين شخوص الرواية ويتضح بأن الدم السوري واحد وأنها خلافات إشكالية ظاهرية ممكن حلّها بمعرفة وجهات نظر الآخر وإفساح المجال لمعرفة الدوافع التي تقرّب أكثر مما تبعّد.. هذا النزل يمثل سورية و(السيدة إلفت) هي الأم المتزنة الجامعة للكل .
مرجعية بعيدة
* هل الواقع له تأثير سلبي أم إيجابي عندك ككاتبة ومن أين تستمدين فكرة العمل الروائي؟
أنا ابنة هذا البلد العريق عايشته في محطات كثيرة مررت بها في حياتي أتقلب فيها ضمن كل الظروف.. كنت ومازلت أفخر بسوريتي هي ابنة حضارة عريقة الجذور والتاريخ منذ الأزل ومنذ ما قبل الميلاد تحمل إرثاً لا يمكن تغطيته بغربال الحاقدين.. من أجل ذلك أول أهداف الإرهابيين كان هدم أوابدها وقلاعها وثرواتها التاريخية العالمية الموغلة في القدم.. وكلي ثقة بأن هذا البلد لا يمكن أن ينحني إلّا لخالقه.. صحيح نحن اليوم نعيش ظواهر دخيلة لم يعرفها مجتمعنا يوماً من فساد لا يحتمل واستغلال بشع لمقدرات المواطن والوطن والسعي إلى إفقار المواطن وإفلاسه تنفيذاً لمشغليهم.. ولكن في النهاية لا يصح إلّا الصحيح ولي معطياتي التي أستند عليها في ذلك..
* ذلك عن الأمل لإعادة إعمار البلاد، لكن ماذا عن صدى ذلك في إعمار روايتك؟
أما عن مواضيع رواياتي فأنا أستقيها من الواقع المعيش.. فقد كان لعملي مديرة لثانوية كبيرة للبنات لمدة ثلاثين سنة أثر كبير نتيجة احتكاكي بشريحة كبيرة من الطالبات وأولياء أمورهن والكثير الكثير من الشخصيات التي مرت في حياتي، وكان للحرب وقعها الأكبر الذي غيّر توجه بوصلة قلمي (١٨0) درجة مع إن ما كتبته قبلاً من مواضيع عامة تناسب الفترة السابقة للحرب.. إذ صارت الأحداث تكتبني اليوم ولا أكتبها وتفرض سطوتها على صفحاتي بقوة ولا شيء غير ذلك حتى ترضى روحي وأستريح .
النقد انطباعي ويتبع الذائقة وقلة من يمارس النقد بشكل احترافي كما هو متعارف عليه
رسائل إلى القارئ
* كروائية وكاتبة هل من قيود في عملك الإبداعي وما هي الرسالة التي تريدين إيصالها للقارىء؟
بصراحة شديدة مازال الكاتب في بلدي مبتور الكلمة الى حدٍّ ما يبتلع نصف السطور ويظهر ما يوافق أهواء الرقابة والمجتمع والأعراف والتقاليد ويخشى دخول التابوهات.. لا يزال ينأى بنفسه عن أي محرقة تشاكس إبداعه وتغلق منافذ فكره.. يحتاج الكاتب إلى حصانة أكبر تحتضن إبداعه وتشعره بثقة مطلقة بلا تردد في تناول قضايا المجتمع من دون أن يحسب حساب المساءلة.. بالنسبة لي اعدُّ نفسي بأني لامست الكثير من القضايا الشائكة التي نعيشها ولكن بدراية في أبعاد المساحة التي أكتب من خلالها.. أوحيت بأفكار تلامس عمق القضايا المنوعة ولكن بحذر شديد من صائدي المعنى وتحريف وجهته.. أما عن الرسالة التي أريد إيصالها إلى القارئ فهي التفاؤل بأنّ الأمور في بلدي ستكون قريباً على ما يرام
فالصبح يأتي عقب الليل، والسلام والأمان يعقب الحروب المدمرة الهمجية.. الأمثلة كثيرة في تاريخ الأمم وأن الدول العظمى ما كانت لتكون لولا حرقة الأفئدة على ما خسره الشعب حين انهارت مدن بأكملها حجراً وبشراً وبنى.. ولكن شريطة تخليص المجتمع ممن يعوق استعادة الأمن والأمان والاستقرار والعمل على إيجاد الحلول الناجعة من المسؤولين لتخليص الشعب من مأساته ووضعه الاجتماعي المتردي في بلد الخير وعودة الأبناء بما يحملونه من خبرات إلى مرابعهم بسلام لعيدوا ما انهدم بسواعدهم الفتية..
عن حكايا النقد
* ما دور النقد في العمل الأدبي وهل هناك نقّاد بالمعنى الحقيقي؟
النقد في بلادي انطباعي ومباشر بالعموم ويتبع الذائقة وقلة من يمارسونه بشكلٍ احترافي كما هو متعارف عليه، لعلّه نتيجة الوضع العام وعدم التفرغ له بما يستحق.. النقد هو العين الراصدة للعمل تعزز خطوات الكاتب وتعطيه الركائز الصادقة التي يتجاوز فيها أي عثرة في طريقه الإبداعي ولكن برؤية متوازنة عميقة ضليعة في الثقافة تغترف من المدارس الأدبية المتعددة في موضوعيتها..
ومعظم الكتابات النقدية إما تغمط إبداع الكاتب فتشعره بالخيبة والعجز أو ترفعه إلى مصاف النجوم وتضعه تحت دائرة الضوء ليتصدر المشهد الثقافي وينال الجوائز وهو لا يزال في أول الطريق وفي كل الأحوال هناك أقلام كبيرة حققت هذا التوازن وأبدعت في توصيف العمل..
عن الميديا الجديدة
* ماذا قدمت لك مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً أن معظم الناس تقرأ الرواية إلكترونياً بعيداً عن الكتاب ماذا تقولين في ذلك؟
مواقع التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين من جهة ذللت الكثير من العقبات حيث أصبح بمقدور الكاتب أو الشاعر أو الباحث أو أو.. التعبير عن أفكاره بشكلٍ مباشر من دون انتظار طوابير الجرائد والمجلات ودور النشر في إيصال نتاج قلمه ومن دون وساطة وطول انتظار وسهلت نشر الرواية التي أصبحت ذات شروط مادية تعجيزية في سبيل طباعتها ورقياً وتوزيعها بشكل ينصف الكاتب ويحترم جهده.. طبعاً الطباعة الورقية توصل بصمة الأديب إلى القارئ.. بل يشاركه النبض والأنفاس في صعود وهبوط الفواصل والنقاط ضمن غرفته وأريكته وشرفته.. القراءة الإلكترونية خلف زجاجة الجهاز كالآلة الباردة ضعيفة النبض مقطوعة الوصال بين كاتبٍ ومتلقٍ ولكن لابدَّ منها في زمننا الحالي.. في المقابل أدت مواقع التواصل إلى استسهال البعض في الكتابة والنشر فأفسحت المجال للمتسلقين من الكتاب والشعراء ومدعي الإبداع في طرح إنتاجهم الهش.. والمؤسف تلك الشللية الداعمة لهذه النماذج لأسباب شتى معروفة في الأوساط الأدبية. لكن في النهاية الزبد يذهب جفاء غير أن المشهد الثقافي السوري يعج بالمبدعين الحقيقيين رغم كل الظروف المحبطة..
* كيف تجدين الواقع الثقافي بشكل عام وهل الكاتب يبحث عن نفسه من خلال أعماله؟
في سورية ونتيجة لتأثر المثقف بما حصل فيها من أحداث مؤسفة وفي سبيل البحث عن الذات انقسم الكتّاب إلى شريحتين: الأولى موغلة في اليأس ترى الجانب المظلم في البلد وما آلت إليه وبالتالي يرشح السواد والألم من سطور ما يكتبونه لكنهم قلة.. أما الشريحة الثانية، وهي الأغلبية فإنها تكتب من خلال الواقع ولكن برؤية أكثر عمقاً ودراية وتدع مجالاً لالتقاط الأنفاس المتعبة ولا تبيع الوهم للقارئ ولكنها في الوقت ذاته تحكي عن الألم السوري وتتلمس الحلول وتدعو إلى التماسك والتعاضد لاستعادة ما فقدناه من أرواحنا التي أنهكتها تفاصيل الحرب اللئيمة وهذا هو المطلوب..