الإناث يقتحمن سوق الخدمة في المطاعم و”الكافيهات”.. ما أخفق أمامه دعاة تحرير المرأة أنجزته الأزمة بكفاءة
تشرين – ولاء العمادي:
ربَّ ضارة نافعة.. وربَّ أزمة خلطت أوراق مجتمع لتعيد إخراجها وفق ترتيب جديد قد يكون أفضلاً، هذا هو حال الأزمة والتحولات الحادة التي أحدثتها في قوام نسق قديم من التقاليد والأعراف في بلدنا.. ولعلَّها تحولات إيجابية في بعض ملامحها، إذ إنها كسرت قوالب قديمة وأنتجت اختراقات على مستوى مهام النوع الاجتماعي.
يعزو بعض المقاهي الراقية توظيف النادلات وفي استقبالات الفنادق وحتى في مكاتب الطيران، إلى قلة نسبة الشباب الذكور من طالبي العمل الذين يرغبون في مثل هذه الوظائف
من المرأة العاملة على تكسي أجرة أو باص نقل ركاب، أو شاحنة نقل بضائع، وقد كان لإحدى المؤسسات الحكومية تجربة في هذا المجال وهي المؤسسة العامة للخزن والتسويق التي جرى دمجها في المؤسسة السورية للتجارة حالياً،..إلى سلسلة متعددة الحلقات من مجالات العمل التي اخترقتها المرأة السورية، تحت ضغط الحاجة والبحث عن مصدر “لقمة نظيفة”.
مهنة طارئة وظريفة
الجديد في المشهد خلال السنوات الأخيرة كان الفتاة النادلة أو ” الكرصون” في المطاعم والمقاهي، التي وجد أصحابها ضالتهم في “مصائب قوم” لإحداث علامة فارقة جاذبة في آليات تقديم خدماتهم، ولعلّها أقل تكلفةً، فالعمالة الناعمة ذات أجر أقل على اعتبار أن استحقاقات الإنفاق وتحديات الحياة أمام الفتاة تبدو أحياناً أقل مما هي عليه أمام الشاب الذكر الباحث عن أدوات تأسيس مستقبل مازالت من مهامه كرجل، والخيار طبعاً أما أجور أقل أو الهجرة.
د. فضلية: يرتبط مستوى قبول أو عدم قبول عمل (الصبية) كـ (نادلة) يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمستوى الحضاري والثقافي للجمهور ومستوى الوعي الاجتماعي ونظرة المجتمع للمرأة
المهنة الجديدة التي غزتها المرأة في سوق العمل السورية بشكل واسع الطيف نسبياً كانت مهنة ” النادلة” في المقاهي والمطاعم، إذا نلحظ أن المجالات التي ذكرناها أعلاه كانت حالات استثنائية كالعمل على وسائل النقل العامة، ويبدو حقيقة أن الفتيات نجحن في الظهور على واجهات الخدمة في المطاعم والمقاهي الراقية، لأن مثل هذه المهنة تتناسب مع تكوين الفتاة ” شياكة ولباقة ولطف وحسن استقبال” وقد لحظنا أن معظم فنادق التصنيف الراقي عمدت حتى قبل الأحداث والتحولات إلى تشغيل موظفات استقبال إناث .
لم يكن مقبولاً إطلاقاً للشعب السوري المحافظ (ولا للشعوب المحافظة الأخرى) منذ خمسين أو ستين عاماً أن تخرج المرأة للعمل خارج منزلها
استثناءات
يعزو بعض من استمزجنا رأيهم، لجوء بعض المقاهي الراقية توظف النادلات وفي استقبالات الفنادق وحتى في مكاتب الطيران، إلى قلة نسبة الشباب الذكور من طالبي العمل الذين يرغبون في مثل هذه الوظائف، خصوصاً في الظروف الراهنة، فقسمٌ كبير من الشباب سافر إلى خارج البلاد، و من بقي لا يستيطعون الدوام بشكل كامل بسبب بحثهم عن مصادر دخل عالية وفرص متعددة في ذات الوقت لا تتناسب مع ضرورات الالتزام بدوام طويل كالعمل في المقاهي والمطاعم .
تحوّل بجدارة
يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور عابد فضيلة في حديثه لـ “تشرين”، أن العمل كـ (نادل) هو (مهنة حرفية) مثلها مثل بقية المهن ولكنها تتطلب بعض المواصفات الشكلية والشروط الشخصية …
نادلة: لا يخلو الأمر من مضايقات نتعرض لها.. عندما يأتي شاب للمقهى ويطلب منها التعرف لكن ” لا أعطي أذني لهذا الكلام كي لا أخسر عملي”
لذا.. وباعتبارها كذلك.. فيمكن أن يمارسها شاب أو شابة، شرط أن تنطبق هذه المواصفات والشروط على كلاهما ..
وفي كل الأحوال.. يرتبط مستوى قبول أو عدم قبول عمل (الصبية) كـ (نادلة) يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمستوى الحضاري والثقافي للجمهور ومستوى الوعي الاجتماعي ونظرة المجتمع للمرأة، كـ(أنثى) وكـ(عاملة) بشكل عام … ويرتبط كذلك بمكان العمل وطبيعة الخدمة .
نادلة: علي أن أتحمل هذه الصعاب من أجل الحصول على لقمة العيش التي أصبحت عالية النفقة بعض الشيء
ونعرف أنه لم يكن مقبولاً إطلاقاً للشعب السوري المحافظ (ولا للشعوب المحافظة الأخرى) منذ خمسين أو ستين عاماً أن تخرج المرأة للعمل خارج منزلها.. أما اليوم ، وبعد أن خرج الشعب السوري من البوتقة الاجتماعية المغلقة والعقلية المتحفظة وبعد أن مارست المرأة العديد من الأنشطة.. منها التعليم والعمل الوظيفي والتجاري والحرفي والمهني بنجاح وحيادية فصار مقبولاً أن تعمل (نادلة) كمهنة طالما ثبت للجميع حسن أدائها عموماً .. وطالما صارت تفعل ذلك باحترافية..ولا سيما الخريجات منهن من المعاهد الفندقية، وطالما يمارسن عملهن بعد تدريب وخبرة ..
بل ثبت أنهن يتقنَّ عملهن أحياناً بمستوى مهني أعلى من مستوى الشباب… ولكني أعيد وأكرر أن مكان العمل وطبيعته لهما أهمية بالغة في تقبل أو عدم تقبل عمل المرأة .. فعملها في مطاعم واستقبالات فنادق الخمس والأربع نجوم والمطاعم والكافتيريات الراقية أو في المولات الحديثة أو في مكاتب الطيران..الخ لم يعد مستغرباً .. لا بل محبباً ومحفزاً للمديح والإعجاب …
مع الإشارة طبعاً إلى أن مستوى قبول أو قبول عمل المرأة كـ(نادلة) يختلف ما بين الريف والمدينة وما بين مدينة وأخرى .. بحسب المستوى الفكري والثقافي وشدة الطبيعة المحافظة بين مكان وآخر ..
دوافع
الراتب المغري كان دافع النادلة ” جهينة” للموافقة على العمل كنادلة، فالراتب الذي تحصل عليه من خلال هذا العمل كفيل بتلبية حاجاتها لأن مصروفها كبير للدراسة وللمنزل وشراء حاجاتها ذات الأسعار المرتفعة بعض الشيء .
لكن جهينة تؤكد أن الأمر لا يخلو من المضايقات التي تتعرض لها في اليوم عندما يأتي شاب للمقهى ويطلب منها التعرف أو حتى إنها تسمع بعض كلمات الغزل.. وتقول” لا أعطي أذني لهذا الكلام كي لا أخسر عملي”.
سألنا إحدى “زبونات” مطعم في دمشق القديمة.. مارأيك في أن تكون نادلة فتاة تسألك ماذا تشربين وماذا تريدين..؟
صاحب كافتيريا: السبب هو عدم توفر فرص العمل لكل الاختصاصات في البلد فمنهن مثقفات وخريجات جامعيات ويحملن شهادات عليا
وكانت إجابتها لطيفة : “إنني أشعر بها لو كنت مكانها فأعاملها بلطف لأنني لا أدري ماهي الظروف التي جعلتها تعمل بهذا العمل الذي تعودنا أن يكون شاب عوضاً عنها” .
حاجة
تكشف النادلة ” ليلى” في إجابتها عن سؤالنا كيف تشعر وهي تقدم الطلب للزبون أو تعامله بلطف كي لا يغضب ويذهب ويشكوها إلى مديرها، فهي متصالحة مع الحالة وتؤكد ” بدي عيش” وعلي أن أتحمل هذه الصعاب من أجل الحصول على لقمة العيش التي أصبحت عالية النفقة بعض شيء
رأي مقابل
لكن كيف ينظر الرجل للفتاة التي تعمل كـ ( نادلة) .. سألنا شاباً فكان جوابه أنه لا يهتم بمن يقدم له طلبه إن كان شاباً أو فتاة، فهذا بالنهاية عمل ، ولكلٍّ ظروفه الخاصة للعمل.
شاب آخر قال: أنا أعجب بهذه الفتاة وأكنُّ لها شيئاً من الفخر لأنها تحدت المجتمع وقبلت بهذا العمل بالرغم من أنه عمل خاص بالشاب، وراهنت على النجاح في هذا العمل .
وكان شاب ثالث أكثر وضوحاً حين قال: أنا أرغب بأن أدخل مقهى وأرى أنثى فهن لطيفات في التعامل ويجعلنني أتكلم بلباقة معهن وألقى شيئاً من السرور لأني أتعامل مع أنثى لطيفة.
مصلحة
غالباً صاحب المقهى أو الكافتيريا والمطعم، يريد النجاح لمقهاه عن غيره فيختار الإناث ليزداد رواده ويربح بالمال.
ويوضح صاحب مقهى لم يرغب بذكر اسمه، عندما سألناه عن سبب عمل النساء كنادلات عنده، أنه يدرك أن السبب هو عدم توفر فرص العمل لكل الاختصاصات في البلد فمنهن مثقفات وخريجات جامعيات ويحملن شهادات عليا… ولكن تدهور الحال جعلهن يعملن نادلات، لجني المال وكسب خبرة أيضاً في التعامل مع الزبائن، فالعمل يمكن أن يكون “كورساً” لاكتساب مهنة كما في المعاهد التي يدفعون لها المبلغ المرقوم كي ينالوا الشهادة منها .
أخيراً
لقد تكفّلت الحاجة خلال سنوات الحرب على سورية، بتغيير ملامح سوق العمل وكسر قوالبها بشكل سريع ومتسارع، وهذا ما أخفقت محاولات المفكرين ودعاة مساواة المرأة بالرجل بتحقيقه على مرّ عقود وعقود، بعضهم ينظر بأسف إلى هذا التحول، و آخر يراه إيجابياً بالمطلق.
لكن مهما تعددت وتضاربت الآراء..يبقى الواقع هو الواقع، فالحاجة أم الاختراع وأم التغيير و أبوه أيضاً.