مجد ابراهيم وحديث عن اللّغة العربيّة.. في تجددها على مدى أربعة عشر قرناً

طرطوس – ثناء عليان:
“اللُّغةُ العربيّةُ لُغةٌ مُتجدِّدة” عنوان المحاضرة التي ألقاها الشاعر مجد إبراهيم بدعوة من القصر الثقافي في بانياس، وبالتعاون مع شعبة نقابة المعلمين في بانياس، تحدث فيها عن وجود احتمالين لنشأة اللّغة عموماً، فهي إمّا نشأت بشكلٍ توقيفيّ بمعنى أنّ الإله –أو الآلهة- مَنْ وضع اللّغة (علَّمَ آدمَ الأسماءَ كُلَّها)، وإمّا بشكلٍ توفيقيّ بمعنى أنّ البشر يتواضعون على اللّغة أي يتّفقون على النّطق بها، وهذا ما يعالجه أفلاطون في محاورة “كراتيليوس”، فيستبعد الشّكل التّوقيفيّ لنشأة اللّغة لأنّه بعيد عن العلم، ويختار الشّكل التّوفيقيّ القائم على الاتّفاق والتّواضع بين متكلّمي اللّغة،.

لغة سّاميّة
وعرّف صاحب ديوان “ومضات سوداء” اللّغة بأنها مجموعة “الألفاظ التي اصطنعها الإنسان للتّعبير عمّا يخطر في ذهنه، غير أنّها اكتسبت مع الزّمن صفة ليست في غيرها من الرّموز الاصطلاحيّة”، مبيناً أن اللُّغةُ العربيّةُ تنتسبُ إلى ما اصطُلِحَ على تسميته باللُّغاتِ السّاميّة أو السّاميّات، وهذا المصطلح أطلقه رجلُ اللّاهوتِ المستشرقُ الألمانيُّ النّمسويُّ شلويستر (A. L.Shloester) سنة 1807 م، معتمداً على ما وَرَدَ في التّوراة مِن أنّه بعدَ طُوْفانِ نوحٍ جاءَتْ مِن أولادِهِ الثّلاثةِ (سامٍ، وحامٍ، ويافثَ) شعوبٌ عَمَرت الأرض، وإلى سامٍ نُسِبتْ اللُّغاتُ أو اللَّهَجاتُ (السّاميّة) التي تكلَّمتْ بها الموجاتُ البَشَريّةُ التي خَرَجَتْ من قلبِ شبه الجزيرةِ العربيّة، وهذا اعتقاد دينيّ لا يمكن تأكيدَه أو نفيه، وقيمتُهُ العلميّة تكاد تكون معدومة.

اللُّغةُ العربيّةُ تنتسبُ إلى ما اصطُلِحَ على تسميته باللُّغاتِ السّاميّة أو السّاميّات، وهذا المصطلح أطلقه المستشرقُ الألمانيُّ النّمسويُّ شلويستر

لغة مصطفاةٌ
وبيّن صاحب ديوان “ملهاة الظلام” أن للعَرَبِ لَهَجاتٍ متعدِّدة، تختلف باختلاف البيئة، وهذه اللَّهَجاتُ هي أَضْرُبٌ من الأداء اللُّغويّ في داخِلِ اللُّغةِ الواحدة، وقد تكوَّنت اللُّغة العربيّة الموحّدة بطريقة اصطفائيّة، كانَتْ لقبيلة قُريش اليدُ الطُّولي في ترسيخها انطلاقاً من سيادتها الدّينيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة بالدَّرجةِ الأولى، ولفت إلى ما قاله أبو نصر الفارابيّ: “كانتْ قريش أجودَ العربِ انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلِها على اللّسانِ عندَ النّطق، وأحسنِها مسموعاً، وإبانةً عمّا في النّفس، فلغةُ القرآن هي لغة مصطفاةٌ من اللَّهجاتِ العربيّة، وليست لغةَ قريش، بل هي اللُّغة التي أقرَّتها قريش اصطفاءً وانتخاباً من لَهَجاتِ العرب، وساعدَتْ على هذا الاصطفاء الأسواقُ الأدبيّة والتّجاريّة، والطُّقوسُ الدّينيّة.

الازدواج اللغوي
واللُّغة الفُصحى –حسب إبراهيم- هي لغة العدنانيّين أي لغةُ العربِ المُستعربة الذين هجروا لُغاتِهم الأصليّة وتكلّموا هذه اللُّغة، والتُّراثُ الدِّينيُّ يُعيدُ هذا الأمر إلى إسماعيل بن إبراهيم، وهنا يقفُ الدّكتور طه حسين مُنكراً الشّعر الجاهليّ، لأنّه مكتوب بلغة العرب المستعربة، لا بلغة العرب العاربة القحطانيّين الجنوبيّين الذين تختلف لغتهم عن لغة الشّمال، حتّى إنَّ عَمْرَو بنَ العلاء قالَ عن لغة الجنوب: (ما لِسانُ حِمْيَرَ بلسانِنا ولا لُغتُهم بلُغتِنا).

تكوَّنت اللُّغة العربيّة الموحّدة بطريقة اصطفائيّة، كانَتْ لقبيلة قُريش اليدُ الطُّولي في ترسيخها..

وهذا برأي صاحب “أنا هنا جميعاً” لا يَعيبُ اللُّغةَ العربيّةَ ولا يَطعَنُ فيها، بل رُبَّما كانَ تقسيمُ العربِ إلى عاربة ومُستعربة هو ما يستدعي إعادةَ النّظر، وبيّن أن الازدواج اللّغويّ هو ظاهرة تكاد تكون عامّة في اللُّغات، حيث أن للُّغةِ مُستويينِ في الاستعمال، منهما مستوىً خاصٌّ تُكتَبُ به الآثار الأدبيّة والعلميّة، ومستوى عام تستخدمُه عامّةُ النّاسِ للتّواصُل، وقد ذكَرَ نزار قبّانيّ في كتابه (قصّتي مع الشّعر) حلّاً لهذه الازدواجيّة بقوله: “وكانَ الحلُّ هو اعتمادُ لغةٍ ثالثةٍ تأخذُ من اللُّغةِ الأكاديميّةِ مَنْطِقَها وحِكْمَتَها، ورصانتَها، ومن اللُّغةِ العامّيّةِ حرارتَها، وشَجاعَتَها، وفتوحاتِها الجريئة.

تطوُّرُ اللُّغةِ العربيّةِ على مدى أربعةَ عَشَرَ قرناً أخذَ شكلَ طَفَراتٍ خَمسٍ

طفرات اللغة
وأشار صاحب “دندنات عارية” إلى أن تطوُّرُ اللُّغةِ العربيّةِ على مدى أربعةَ عَشَرَ قرناً أخذَ شكلَ طَفَراتٍ خَمسٍ، هي: الطَّفرةُ القرآنيّة، حيث نقلَ القرآنُ اللُّغةَ العربيّةَ من طور إلى طور، فحوَّلَها مِن لغة شعرٍ إلى لغةِ دين. وطفرةُ العقلِ المُكوِّن: حيث تحرَّرت اللُّغة من إسارها السّوريّ (نسبة إلى السّورة)، فلم تعد شعراً وسُوراً وكلماتٍ قصاراً، بل تأكَّدتْ صفتُها العلميّة. وطفرةُ العقلِ المُكَوَّن: هذه الطّفرة جاءتْ على شكلِ تَطوُّرٍ إلى الوراء في عصر الانحدار، فتوقَّفَ العقلُ المُكوِّنُ عن الاشتغال، وانكفأ العقلُ المكوَّنُ على نفسه، وفي طفرة عصرِ النَّهْضة: انهالت العلومُ فجأةً من طبّ ورياضيّات وطبيعيّات…، فكان المُحدَثون محضَ نَقَلةٍ ومترجمين، ولكنَّ اللُّغةَ العربيّةَ تخلّصت من قيود عصر الانحدار، وأنقذت نفسها من مصير اللّغة اللّاتينيّة، واستوعبت العلوم والفنون، وطُبِعت الصُّحُف اليوميّة والمجلّاتُ الأسبوعيّة والشّهريّة، والكُتُبُ المدرسيّة، وصار حتّى المستمعُ الأمّيّ يفهم ما يُوجَّهُ إليه في الإذاعة من نشراتٍ إخباريّة وأحاديث باللّغة العربيّة. أما طفرةُ المُعاصَرة: فهي استمرارٌ وتجاوُزٌ لطفرةِ عصر النَّهضة، وأهمّ مظاهرها ابتعادُ اللّغة العربيّة درجةً أُخرى عن الإنشائيّة، واقترابُها درجة أخرى من اللّغة المفهوميّة للعقل الاستدلاليّ الحديث.
وختم الشاعر مجد إبراهيم محاضرته مؤكداً أن اللُّغة العربيّة قابلة للتّطوّر دائماً، ولكنّها تحتاج إلى مؤسّسات أقوى من المؤسّسات القائمة الآن، مع إقرارنا بفضل مجامع اللّغة العربيّة وسواها، ولكنّ العلم يتطوّر على مدى الدّقائق والثّواني، وعلينا اللَّحاق بركب الحضارة مستندين إلى لغة متحضّرة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار