السفن السورية الكبيرة ذات الحمولات الضخمة تغادر المشهد..  وشركات الشحن البحري العالمية تنقل 90 في المئة من البضائع المتداولة عالمياً 

تشرين – يسرى المصري:

لا يمكن المرور على صناعة السفن العالمية وتطورها من دون المرور على صناعة السفن السورية، فبالعودة لتاريخ ونشأة صناعة السفن يؤكد الجميع أن الفينيقيين ملوك البحار وأهم تجار زمانهم هم من ابتكروا وصنعوا السفينة الأولى في العالم، وقد سميت (قادس) ذات الشراع الواحد، حيث صممت لتسير بطاقة الرياح، وأيضاً بالطاقة البشرية من خلال المجاذيف المتدلية من جانبيها، و تم استخدامها للتجارة وللحرب، فكان ازدهار هذه الصناعة لدى الفينيقيين منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، ومن ثم تطورت هذه الصناعة عبر حقبات زمنية متلاحقة، وكانت جزيرة أرواد من أهم الأماكن التي شهدت هذا الازدهار.

تقهقر

رغم أن السفن الكبيرة السورية ذات الحمولات الضخمة قد تجمدت صناعتها، واقتصرت على مراكب الصيد والنزهة واليخوت بأحجام مختلفة، إلا أن العمل والطموح كانا كبيرين، واستمرت صناعة السفن الحديدية في مرفأ مدينة بانياس فكانت السفينة الأولى فرح ستار (١)، والثانية فرح ستار (٢) والتي قام بصنعها القبطان خليل بهلوان ابن جزيرة أرواد.
رغم ذلك فإن من بقي من أجيالنا المعاصرة قلة ممن أتقنوا هذه الحرفة، لما يتكبدونه من عناء، كون هذه الحرفة متعبة جسدياً، وتواجه بعض المنغصات، ولا تؤمن المردود المالي المرجو مقابل هذا العناء، ما جعل هذه الحرفة مهددة بالاندثار، وتستدعي من المعنيين تحفيزها عبر إحداث أحواض جافة ومزلقانات بأحجام تسمح بالصناعة والصيانة لكل السفن المحلية والأجنبية التي تؤم المرافئ السورية، إضافة إلى تسهيل الإجراءات الإدارية الخاصة بدخولها إلى الأحواض، وكذلك الإجراءات الإدارية للمعاملات الخاصة بالتصنيع مع تسهيل إيصال المواد إلى الصناعيين، ودعمهم بالطاقة المطلوبة وتسهيل إجراءات التصدير إلى كل الدول التي ترغب باستيرادها وإحداث أكثر من حاضنة لتعليم هذه الحرفة لأجيال بأعمار صغيرة، لاستثمار خبرة صانعي السفن والمراكب الأروادية ونقلها إلى أجيال متعاقبة، وبهذا نكون قد ضمنا موارد بالقطع الأجنبي، الأمر الذي سيشكل رافعة اقتصادية مهمة, ويساهم في دورة رأس المال السوري من دون الحاجة لأي دعم من أي جهة كانت.

الوقود معيار الصناعة الجديدة

يمر الشحن البحري عبر المحيطات بلحظة تاريخية مفصلية، فالصناعة ككل تشهد أكبر تحول في استخدام الطاقة منذ أن تحولت من الفحم إلى النفط قبل عقود، لكن عملية التحول إلى الوقود الخالي من الكربون أو ما يعرف بالوقود المنخفض لا تزال تتسم بكثير من الفوضى.
وتستخدم معظم السفن التجارية العابرة للمحيطات في العالم البالغ عددها 60 ألف سفينة، زيت وقود ثقيلاً شبيهاً بالقطران، ووفقاً للمنظمة البحرية الدولية وهي الجهة العالمية المنظمة لهذه الصناعة، فإن الشحن البحري في العالم مسؤول عن نقل ما يقرب من 90 في المئة من البضائع المتداولة عالمياً.

الوقود معيار الصناعة الجديدة للسفن عبر الممرات البحرية الخضراء.. وشركات الشحن بين خطر ارتفاع التكاليف وبين الإفلاس

وفي الوقت ذاته تتحمل الصناعة المسؤولية عما يقرب 3 في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية سنوياً.
لكن، لماذا تصاب شركات النقل البحري، خاصة الشركات الغربية العملاقة التي تتحكم في الصناعة، بالقلق عند الحديث عن تحولها إلى أنواع أخرى من الوقود؟ ألا تجري عملية التحول في مجال الطاقة على قدم وساق في صناعة السيارات على سبيل المثال، إذ يقوم المصنعون ببناء مصانع للشركات الكهربائية والبطاريات.
إن “المتوسط العالمي لعمر المركبات على الطرق يبلغ 12 عاماً، لكن متوسط عمر السفن الافتراضي يبلغ 25 عاماً، وبناء سفن الحاويات الجديدة يمكن أن يكلف مئات الملايين من الدولارات، ومن ثم الخطأ في اختيار نوع الوقود يعني خسائر ضخمة، يمكن بسهولة أن تؤدي إلى إفلاس شركة الشحن التي تخطئ في الاختيار.
لذلك يوجد الآن اتجاه لدى شركات الشحن لطلب تصميم سفن تعمل بنوعين من الوقود، الميثانول على سبيل المثال، إضافة إلى وقود السفن التقليدي”.
وينقسم أصحاب السفن حول نوع الوقود الذي يجب أن يكون معيار الصناعة الجديدة، وسط تساؤلات مشروعة من قبلهم حول متى سيكون في قدرتهم استرداد الاستثمارات التي سيقومون بها لتحقيق الأهداف البيئية التي فرضتها الحكومات عليهم.

وتبلغ تكلفة الاستثمارات التي يجب أن تتضمنها السفن الجديدة نتيجة التعديلات المدخلة لجعل السفن ملائمة لأنواع الطاقة الجديدة المستخدمة والتغيرات التي ستجرى في البنية التحتية للموانئ، لتتماشى مع السفن الجديدة، وفقاً لبعض التقديرات، ثلاثة تريليونات دولار على مدى العقود القليلة المقبلة.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فلا بد من أن تكون الموانئ أيضاً مجهزة لضمان تمويل السفن باحتياجاتها من أنواع الوقود الصديقة للبيئة وبأسعار تنافسية، لكن الميثانول الأخضر الذي تفضل بعض من شركات الشحن الدولية أن يكون هو الوقود المعياري الجديد في الصناعة، إنتاجه محدود وسعره مرتفع وأعلى بنسبة تراوح بين 50 إلى 100 في المئة من وقود السفن التقليدي.
وتتضح تفاصيل المعضلة عند معرفة أن شركة ميرسك عملاق الشحن البحري في العالم، التي قامت العام الماضي بتشغيل 15 في المئة من أسطول الخطوط الملاحية المنتظمة حول الكرة الأرضية، ستحتاج إلى مليون طن من الميثانول الأخضر سنوياً لتشغيل السفن الجديدة.
لكن الإنتاج العالمي يبلغ نحو 30 ألف طن فقط، ولتأمين تلك الكمية وقعت اتفاقيات مع منتجي الميثانول في القطاع الخاص في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا إضافة إلى مصر.
لكنّ آخرين يفضلون تفادي المغامرة، ويفضلون طلب تصميم أو شراء سفن جديدة تعمل بالغاز الطبيعي المسال الذي ينبعث منه كمية أقل من ثاني أكسيد الكربون ويتوفر بكميات أكبر من الميثانول الأخضر.

مع هذا، فإن التوصل إلى إجماع بين شركات الشحن البحري سيكون صعباً للغاية، عندما يتعلق الأمر بنوع الطاقة المرجح أكثر استخدامها في السفن الجديدة.
وتوضح “المنظمة البحرية الدولية وهي الجهة التنظيمية التابعة للأمم المتحدة، أنها وضعت هدفاً لصناعة النقل البحري لخفض انبعاثات الكربون إلى النصف بحلول 2050 مقارنة بمستويات 2008، وبعض الشركات مثل ميرسك تخطط لامتلاك أسطول محايد للكربون بحلول 2040″.
لكن هذا الطموح يبدو مبالغاً فيه، لأن أصحاب السفن سيضخون استثمارات في سفن جديدة من دون ضمانات بشأن توفر قدر معين من الأعمال، ووسط مخاوف من ارتفاع تكاليف التشغيل، ولذلك لن يكون هناك طاقة أخرى أكثر وديةً ويسراً في التعامل معها مثل النفط”.

الممرات الخضراء

هذا الوضع تحديداً هو ما دفع لإنشاء ما بات يعرف بممرات الشحن المحيطية الخضراء، علما بأن الفكرة وراء هذه الممرات هي أن تسافر سفن الشحن على طول الطرق البحرية باستخدام وقود منعدم الانبعاثات أو منخفض الانبعاثات، وللمساعدة في تحقيق ذلك تعمل الموانئ المشاركة في تلك الممرات على بناء مرافق تخزين جديدة للوقود الأخضر كبدائل للوقود التقليدي.
لكن نظراً لأنه لا يمكن تنفيذ تلك الفكرة في كل موانئ العالم في  الوقت ذاته، فكان لا بد من إنشاء تلك الممرات على نطاق محدود، ثم توسيع نطاقها لاحقاً.
في أيلول من العام الماضي، أبحرت أول سفينة حاويات بين سنغافورة وميناء روتردام الهولندي أكبر الموانئ الأوروبية عبر هذا الممر الأخضر، وكانت السفينة التي أطلق عليها اسم “لورا ميرسك” تعمل بالميثانول.
من ناحيتها، ذكرت لـ”وكالات” أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، أن “مفهوم الممرات الخضراء ولد في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمناخ كوب 26 المنعقد في جلاسكو في اسكتلندا 2021، ويسمى إعلان كلايدبانك الذي وافقت عليه 22 دولة، ويتضمن التزاماً بإنشاء ستة ممرات على الأقل بحلول منتصف هذا العقد”.
وأضاف “في كوب 28 المنعقد في دبي في دولة الإمارات تم الإعلان عن ممرات جديدة، بما في ذلك ممر من الساحل الغربي لكندا إلى كوريا الجنوبية واليابان وواحد في منطقة الكاريبي، وآخر بين هيوستن في الولايات المتحدة وأنتويرب في بلجيكا”.
لكنّ مزيداً من الممرات الخضراء حول العالم لا تحل مشكلة صناعة الشحن البحري من وجهة نظر البعض، فقناعتهم بأن الممرات الخضراء مفهوم لا يزال في مرحلة النضج إلى حد ما ويركز حتى الآن في الأغلب على إظهار الجدوى الفنية والتنظيمية للشحن المنخفض أو صفري الكربون، فلماذا يكون من المنطقي توسيع نطاقه؟
كما إن “بعض الموانئ تواصل الاستعداد لتكون قادرة على تزويد السفن باحتياجاتها من الطاقة الجديدة، لكن من الواضح أن شركات بناء السفن تواجه تحدياً كبيراً”.
وتبين الأرقام أن 0.6 في المئة فقط من سفن الشحن حول العالم تعمل بالوقود البديل، و15 إلى 16 في المئة فقط من السفن المطلوبة حالياً ستعمل بالوقود المزدوج أو البديل”.
ويشكك الكثيرون في أن تحظى ممرات الشحن الخضراء بالشعبية بين شركات الشحن العالمية، لأن “الوقود البديل باهظ الثمن، ورؤساء مجالس إدارات شركات الشحن البحري الرئيسة، وعلى الرغم من التصريحات الرنانة والداعمة للتغيير يخشون أن تجعل عملية التغير شركاتهم أقل ثراءً، لذلك لن يحظى هذا التغيير بشعبية، فعملية إزالة الكربون من الشحن البحري معقدة ومكلفة على حد سواء”.

لكن نبرة الشك تلك لا تنفي أن ممرات الشحن الخضراء حول العالم في تزايد، إذ ارتفعت من 21 إلى 44 في 2022، ويعتقد بعض الخبراء أن هذا العام سيكون محورياً بالنسبة للممرات الخضراء.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار