عن رسائل الحب الخالدة والقيمة الثقافية للرسائل الورقية.. ما برح الورق يتلمس التاريخ والذكريات

دمشق- حنان علي:
في عصر التكنولوجيا الحديثة، حيث يسود التواصل الإلكتروني معظم العلاقات الاجتماعية، تبدو الرسائل الورقية خياراً مهملًا ومهمشاً، وفكرة عتيقة غيبتها الحداثة، فما الذي استجدّ في دماغي لأصرّ على إرسال خطابٍ مكتوبٍ بخطّ حبريّ منمق كدت أنساه؟!
لعلني حين ألقيتُ نظرة عميقة على هذا النوع من التواصل التقليدي، تذكرتُ كم كان يحملُ في طياته أبعاداً لا تُقدر بثمن، أعظمها قيمة اللمسة البشرية التي تفتقدها الخطابات الرقمية، وأجملها أوراق مجعدة بتعثر أصابع مترددة التعبير، وأكثرها شغفاً تسليمها لصندوق البريد الأحمر، أو انتظار ساعي البريد مع دراجته المحملة بمظاريف وسمتها آثار الأختام والطوابع أو قطرات من عطر مألوف.. وسرعان ما ساقتني الفكرة بعيداً عن رسالتي الورقية ومغلفها الأنيق لاسترجاع سبل الاتصال بين البشر وطغيان سحر الورق.

تواصل بين الحضارات
حاول الإنسان منذ آلاف السنين ما قبل الميلاد، سرد القصص وتدوين التاريخ عبر صور تعبيرية مَحفورة على جدران الكهوف، استخدم بعدها الإشارات الدُّخانية بأنماطٍ معينة لإرسال الرسائل، ثم خطّ السومريون الكتابة الأولى عام 3500 قبل الميلاد، مستخدمين المسامير للنقش على ألواح كيش لإحداث الكتابة الصوريّة.. ثمّ كان الحمام الزاجل ومن بعده نظام البريد، الوسيلة القديمة الحديثة، منذ عهد المصريين 2400 قبل الميلاد .

خطّ السومريون الكتابة الأولى عام 3500 قبل الميلاد مستخدمين المسامير للنقش على ألواح كيش لإحداث الكتابة الصوريّة

تم اختراع الورق في القرن الخامس عشر، وتطوير نظام الاتصالات البريدية، ومن ثمّ جاء التلغراف والهاتف في القرن التاسع عشر، وبعد ذلك انتشرت أجهزة الكمبيوتر الشخصية في سبعينيات القرن العشرين، ومن ثم ربطها بشبكة الإنترنت إبان التسعينيات.. وهكذا ظهر البريد الإلكتروني ومواقع «الويب» ومحركات البحث.. ثم تطورت الاتصالات بشكلٍ كبير مع ظهور منصات التواصل الاجتماعي مثل «تويتر وفيسبوك وسناب شات وإنستغرام».
وفي القرن الحادي والعشرين، انتشرت الهواتف المحمولة بشكلٍ كبير، ما جعل التواصل متاحاً للجميع في أي وقت ومكان، محدثاً تحدّيات جديدة تتعلق بالخصوصية والأمان وتأثير وسائل الاتصال الجديدة في العلاقات الإنسانية.

صناعة الورق
تطورت صناعة الورق وتغيرت أنواع الورق المستخدمة في مختلف الحضارات، حيث يعود ظهوره وصناعته لعام 105 ميلادي في الصين حين قام شخص يدعى «تساي لون» بصنع ورقة من ألياف التوت ومزجها مع شباك الصيد والخِرق، ثمّ انتقلت صناعة الورق إلى اليابان وبعدها كوريا بحلول عام 610 ميلادي، وبقيت سراً وذات حراسة مشددة حتى سنة 751 ميلادي، ووصلت بعدها صناعة الورق إلى آسيا الوسطى وسمرقند في عام 751م، إلى أن تمّت صناعة أول ورقة في بغداد سنة 793م في فترة حكم هارون الرشيد، ثمّ بحلول عام 1800 ميلادي تم إدخال استخدام عجينة الخشب والخضراوات كمواد خام إلى جانب القطن والكتان.

يعود ظهور وصناعة الورق لعام 105 ميلادي في الصين حين قام شخص يدعى «تساي لون» بصنع ورقة من ألياف التوت

أما أنواع الورق فتمايزت بين ورق البردي، وورق الخيزران، وورق البرشمان (المصنوع من الجلود ) والورق الحديث المتنوع بين ورق الطباعة، وورق الكتب، وورق الطباعة الفوتوغرافية، وورق النقود، وورق الصحف، وورق الكرتون، وورق الحرف اليدوية، وورق التغليف والعديد من الأنواع الأخرى.

رسائل عبر التاريخ
لا ريب في أن أوّل رسائل العشق المكتوبة استهلها عاشق سومريّ حمل قلمه المقدود للنقش على لوحٍ طيني مُسطِّراً أحرف أقدم أشكال الكتابة المعروفة قبل وضعها داخل مظروف طينيّ، لتلحقها رسائل خُطّت على الورق بمداد القلب ..

اخترع الورق في القرن الخامس عشر وتطور نظام الاتصالات البريدية

“هل انشغلتِ لدرجة أنك نسيتِ زوجك الغارق في المتاعب والمشاق”، هذا ما كتبه نابليون بونابرت لجوزيفين خلال الحملة الإيطالية عام 1796: ” أنا منعزل. وقد نسيتني، ومنذ ثمانية أيام أنا أمتطي الخيل بلا نوم ولا راحة ولا ليل”.
وفي رسالة حب من الموسيقار الألماني بيتهوفن لـ«حبه الخالد» أذكر مقطعاً من رسالة أرسلها عام 1812: ” من المنصف أن يمسي الحب متطلباً، فأنا لك وأنتِ لي، فابتهجي، وتذكري أنك حقيقتي وكنزي ».
ومن المعتقل وصف نيلسون مانديلا لزوجته ويني مشاعره إزاء خبر اعتقالها قائلاً: “كان علمي بأنك طليقة في السابق إحدى الوسائل للاحتفاظ بإحساسي بالحرية والفرح”.

تمّت صناعة أول ورقة في بغداد سنة 793م في فترة حكم هارون الرشيد

وتعبيراً عن الحب الكبير لميّ زيادة أرسل جبران خليل جبران: “ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها، فهي كَنهر من الرحيق يتدفق من العالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي، بل هي كقيثارة أورفيوس تقرّب البعيد وتبعد القريب وتحوّل بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة”.
وفي آذار 1941 وقبل أن تقدم الكاتبة البريطانية «فرجينيا وولف» على الانتحار غرقاً، جلست لتكتب رسالتها الأخيرة إلى زوجها ليونارد وولف: ” حبيبي، لو كان بإمكان أحد ما أن ينقذني، فلا بدّ أنه أنت.. إني مَدينة لك بكل ما تمتعت به من سعادة في هذه الحياة، فقد أحسنت إلي كل الإحسان، ولا يمكنني البقاء لأفسد عليك حياتك”.

أول رسائل العشق المكتوبة استهلها عاشق سومريّ حمل قلمه المقدود للنقش على لوحٍ طيني

ومن رسالة غسان كنفاني إلى غادة السمان أذكر: ” إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً، ولكنه ضدنا بصورة متساوية، فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟”.

لماذا الرسائل الورقية؟
ما لبث الاتصال الورقي يتيح فرصة للتواصل الشخصي على نحو أكثر دفئاً، بما يعزز العلاقات الشخصية ويضيف قيمة عاطفية إلى التواصل بين الأشخاص، فالرسالة الورقية، التي عفا عنها الزمن، تظلّ منبعاً للاهتمام والاحترام أكثر بكثير من الرسائل الإلكترونية، أما إمكانية الاحتفاظ بها فهي أفضل ولفترة أطول حيث يعزز ذلك قيمتها العاطفية ويتنسم بالذكريات المرتبطة بها، هذا عدا عما تضمن من سرية وخصوصية وأمان.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار