من أجل عالمٍ بلا شرور أو معاناة.. ثماني طرقٍ نبيلة ومعرفة أربع حقائق لإرواء عطش الجسد

تشرين- علي الرّاعي:
صحيحٌ أنّ الذين يُمكن أن تطمئن إلى ترجماتهم من اللغات الأخرى إلى العربية، هم من الندرة بمكان.. غير أنه في المُقابل ثمة مترجمين، وبعد تجربة طويلة مع اللغات التي يُعربّون عنها، مازالوا يثبتون وعلى الدوام أنه يُمكن للقارئ المتلهف لقراءة الآخرين من خلال مبدعيهم وليس من خلال سياسييهم وقادتهم السياسيين، يُمكن لهذا القارئ – المًتابع أن يُعوّل على عائلة المترجمين السوريين، الذين تفوّق الكثير منهم على العديد من المؤلفين.
من هؤلاء المترجمين الدكتور إبراهيم استنبولي عرّاب الأدب الروسي، وعن اللغة الروسية مباشرةً وليس من لغة وسيطة، والذي يُذكرنا بمترجمين رائعين أيضاً: محمد عُضيمة عراب الأدب الياباني، والدكتور عبدو زغبور، وجعفر العلوني عن الإسبانية وغيرهم أيضاً وإن ليس كثيراً.
والكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو كتاب (تعاليم بوذا) من ترجمة رعد عبد الجليل جواد، الذي يعدنا هو الآخر بالاطمئنان لما يقوم به من ترجمة.

على الإنسان أن يكون حنوناً حتى على أعدائه

عن بوذا والبوذيين
ذات حينٍ من عقد التسعينيات من القرن الماضي، أقدمت حركة طالبان، وكانت في بداية تشكلها كفرع لمنظمة القاعدة التكفيرية في أفغانستان على تدمير تماثيل بوذية على سفح جبلٍ أفغاني، يزيد عمرها على خمسة آلافٍ من السنين، ولم تشفع لها توسلات واحتجاجات ملايين البشر والمنظمات الإنسانية في مختلف أرجاء الكون..! وحدهم البوذيون بقوا صامتين لم يصدر عنهم أي احتجاج، أو توسل، وتقبلوا تدمير تماثيلهم الدينية برضا وسلام!
من يطلع على كتاب “تعاليم بوذا” في نسخته العربية، الصادر عن دار الحوار في اللاذقية، أحسبُ أنه سيصل إلى تفسير لردّة الفعل هذه التي تقبّلت الاعتداء الديني من الجهة التكفيرية المذكورة.. تلك التعاليم التي أعدّها (بوكيو ديندو كيوكا)، وترجمها للعربية رعد عبد الجليل جواد، وأول ما تؤكد عليه هذه التعاليم هو الابتعاد عن شرورٍ خمسة في العالم، أولها: القسوة، فمن هنا كان “الحنان” هو ديدن هذه العقيدة الفلسفية، بل إنّ البوذية تعني أن يكون الإنسان حنوناً حتى على أعدائه.

ثماني طرق لحقيقة الطريق النبيل لوقف المعاناة

ثماني طرق نبيلة
هذه الحالة من الـ”نيرفانا” يصل إليها البوذي من خلال طرقٍ نبيلة حددها بوذا بثمان، وهي: الرأي السديد، التفكير السليم، الحديث الصواب، السلوك القويم، التنشئة الجيدة، طريقة العيش السليمة، الجهود الصحيحة، والتركيز الصحيح.. فذلك ما يُسمى حقيقة الطريق النبيل لوقف المعاناة، غير أن ذلك لن يتم إلا بمعرفة المؤمن بالحقائق الأربع وبذلك يذهب بعيداً عن الجشع، وإذا تخلص المرء من الجشع، فلن يتصارع مع العالم، أي: لن يقتل، لن يسرق، لن يزني، لن يغش، لن يحسد، لن يفقد أعصابه، ولن ينسى سرعة زوال الحال، كما لن يكون ظالماً، ولا يتعدى ولا يُداهن.. ففي درب التنوير وصولاً إلى النور الخالص – كما وصل إليه بوذا – لابد من: الإدراك، الإيمان، العطاء، والحكمة.

الحقائق الأربع
وللتذكير ظهرت البوذية في القرن الخامس قبل الميلاد في الهند، قبل أن تصير معتقدَ الكثيرين في الصين واليابان ودول وسط آسيا.
وفي الهند حيث ولد سيظاراثا – بوذا كأمير في إحدى الممالك على الحدود مع نيبال، عاش مرفهاً حتى سن التاسعة والعشرين حيث تزوج وأنجب ولداً، وذلك كان آخر عهده بالرفاهية وحياة القصور، حيث قرر أن يمضي في درب البحث عن الحقيقة، وبعد صراعٍ مرير وطويل في رحلة عذابٍ ومعاناة من صراعٍ مع الذات ورغباتها، يصل ليكون بوذا أو ” كامل النور” حاملاً على ظهره رسالة تقول بمحاربة الذات والانتصار عليها، وإخضاعها لمفاهيم الفضيلة والتسامي على جميع الأرجاس والأهواء الأرضية.. فجوهر البوذية هو الوقوف بوجه الجشع والطمع والشهوة والتملك، التي من شأنها جميعاً أن تفسد الذات البشرية، وتجعلها تحيد عن طبيعتها الأساسية القائمة على النقاء والصفاء، ومن هنا وجب على البوذية أن تناضل طول الوقت لإعادة الإنسان إلى نقائه الأول لغرض الوصول إلى الحالة النورانية، والدخول في أرض بوذا في حياة تلي حياته الأرضية.

مقاومة النزعات الشريرة
والبديل الذي تطرحه البوذية لحياة الإنسان ومستقبله على الأرض يتكيف مع ضرورة نبذه للشر ومقاومة النزعات الشريرة في الذات البشرية، التي تراها البوذية مكتسبة ودخيلة.. من هنا فالبوذية هي احتجاج على إفساد البراءة الأولى للإنسان.
وبوذا الذي استمر بدعوته خمسٍة وأربعين عاماً بقي يُعلم الحكمة والحب، ونتيجة لذلك انتشرت البوذية في عموم الهند والصين واليابان ودول كثيرة في آسيا الوسطى وفي مختلف دول العالم، وذلك من خلال تعاليم تمّ تسجيلها في أكثر من خمسة آلاف جزء، حيث ساهمت البوذية في تحولات المجتمعات التي حلّت بها، فقد استطاعت بمضي الزمن أن تحدث التحوّل النوعي المطلوب، وتتكيّف مع ظروف مجتمعاتها التي تحلُّ فيها.. فمع انتقال البوذية من الهند إلى الصين أصبحت بعد مرور فترة ليست بالقصيرة ذات طبيعة صينية، وهكذا مع المجتمعات الأخرى، بمعنى أن هناك اليوم بوذية صينية، وأخرى يابانية، حيث منها نهضت طائفة “الزن” الصينية ذات الشهرة الذائعة.

العالم حسب الرؤى البوذية مليءٌ بالمعاناة

حكايا التنوير
وبوذا لا يقدّم تعاليمه مجردة، بل يقدمها من خلال قصصٍ وحكايات قديمة مفعمة بالرموز، لكن التي يسهل تحليلها للسير في طريق النور، فالعالم حسب الرؤى البوذية مليءٌ بالمعاناة: الولادة معاناة، التقدم في السن معاناة، المرض والموت معاناة، لقاء شخص تكرهه معاناة، العمل بجد لتلبية متطلبات الحياة معاناة.. وفي الحقيقة لا تخلو الرغبات من الآلام، وذلك ما يُسمى حقيقة المعاناة، وسبب المعاناة الإنسانية هو عطش الجسد المادي، وإذا تمّ التعرف على ذلك العطش، وذلك الوهم، فسوف يتضح ارتباطهما بالغرائز المادية.. تلك الرغبات التي لها القدرة على البقاء حتى لو كانت مميتة، وذلك حقيقةً سبب المعاناة.. وإذا تمكّن الإنسان من إزالة الرغبات فإنّ الهوى سوف يموت، وسوف تنتهي المعاناة الإنسانية، وهذا يدعى حقيقة إنهاء المعاناة.
ومن هنا على المرء أن يخاف من الشر مهما صغر، وذلك بالسلوك القويم وبتركيز الذهن، الذي يعني الابتعاد عن الجشع والرغبات، والحكمة في بقاء الذهن نقياً وهادئاً بالفهم التام وقبول الحقائق الأربع النبيلة، وهي: معرفة حقيقة المعاناة وطبيعتها، ومصدرها، ومعرفة إنهاء المعاناة، وذلك بالطريق النبيل الذي يقود لإنهائها، وبذلك يصير المؤمن بطريق النور، ومن أتباع بوذا.

الكتاب: تعاليم بوذا
الكاتب: بوكيو ديندو كيوكا
ترجمة: رعد عبد الجليل جواد
الناشر: دار الحوار – اللاذقية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار