مهنة جديدة فرضها الواقع المعيشي.. جمع “الفوارغ والتوالف” مصدر عيش يستقطب بعض الأسر
دير الزور- عثمان الخلف:
تركت الأزمة التي عاشتها وتعيشها سورية انعكاساتها السلبيّة على الواقع المعيشي للكثير من العوائل، وليست دير الزور ببعيدة عن آثارها، حيث اضطرت عوائل، بهدف تأمين معيشتها، للعمل بمهن ما كانت في الحسبان، وسط موجات غلاء متصاعدة، طالت مختلف جوانب الحياة.
ولقد باتت مهنة جمع “الفوارغ والتوالف” تستقطب البعض، واللافت أن أغلبية من يمتهنها هم من الأطفال والفتية والنساء، مهنة فرضت تزايداً في أعداد ما تُسمى بـ”الخانات”، والتي لها “أرباب كار” يشترون ما يُجمع مقابل المال الذي يُدفع لهؤلاء.
إضاءة
مهنة جمع “التوالف” في دير الزور رائجة عند البعض منذ قرابة قرن، نشط فيها أصحاب كار، جُلّهم من خارج المحافظة، فكان يُطلق على هؤلاء لقب “الحواج”، ويؤكد الباحث غسان الخفاجي في حديثه لـ” تشرين ” أن كلمة “حواج” جاءت من جمع الحاجيات، مُقايضاً إياها حينها مقابل “العلكة” أو “السكاكر” وسواها، فيحصل على الأدوات والمواد المُنتهية الصلاحيّة، إذ يستأجر منزلاً في أطراف المدينة يضع فيه ما يجمعه، ثم يفرزها، ولاحقاً يشحنها إلى مدينة حلب، حيث المصانع التي تستقبلها لتدويرها، وسُمي كذلك “الدّوار” وفي كلمة تهكميّة باللهجة المحكيّة يسمى “أبو الدراقيع”، مضيفاً أنه “حالياً ازدهرت ظاهرة جمع المواد المنتهية الصلاحيّة وغيرها من التوالف، وهذه المهنة باتت مصدر عيش لعوائل كثيرة.
أطفال ونساء
صباحاً وفي ساعات المساء، ينشط جامعو (الفوارغ) والمواد التالفة، ومن مختلف الأعمار.
مراكز شراء “المستعمل” ارتفع عددها في دير الزور من 5 إلى ستين تقريباً
مصطفى ابن الرابعة عشر، وجد في هذا العمل ما يسدّ حاجة عائلته المؤلفة من 8 أشخاص، كما يشير لـ” تشرين ” ، ويضيف: والدي يستأجر سيارة لنقل الحاجيات (المواد التي يتم تجميعها) مقابل أجرة تُدفع له، وبدوري أعمل أيضاً بجمع مختلف أنواع المواد التالفة، من كراتين وعلب بلاستيكيّة وخردة قديمة، وأكياس وحاجيات عدة، وبعد فرزها أتوجه إلى إحدى الخانات المنتشرة في المدينة وأبيعها، وتتفاوت قيمة المبالغ التي أحصل عليها، لتصل إلى 20 ألف ليرة، وأحياناً أقل من ذلك، مؤكداً أنه ترك مدرسته العام الفائت، لمساعدة عائلته على تدبر أمورها المعيشيّة.
كما لجأ (ن ، ع) الموظف بصفة مُستخدم في مديرية التربيّة للعمل في هذه المهنة، إذ يبيّن: “راتب الوظيفة لا يكفي لأيام، أعمل ليلاً في جمع المواد التالفة من الشوارع، أو المحال التجارية، وحتى من الحاويات. أيام أحصل من ذلك على مقابل مالي يتجاوز 15 ألف ليرة، والصعوبة التي أواجهها هي في حمل هذه المواد بأكياس كبيرة، فلو كنت أملك آلية أو حتى عربة لخففت عليّ كثيراً، عائلتي كبيرة وما أحصل عليه من هذا العمل يسدُّ جزءاً كبيراً من الحاجة”.
و لا تجدُ السيدة الخمسينيّة “ر،ج” حرجاً من أن تعمل في جمع هذه المواد وبيعها لـ”أرباب الكار”، وأوضحت في حديثها : “أنا أرملة ومسؤولة عن تأمين مصروفي ومصروف أولادي، الذين يتعرضون للإحراج من هذا العمل، لكنّي أجده أفضل من مد يدي للناس، لست وحدي من يعمل، هناك نسوة كثيرات”، مضيفة: “لا أخفيك أنّي أجد في غطاء الرأس والوجه ما يُساعدني في تجنب نظرات الناس. أبدأ عملي منذ الصباح وأحرص على جمع كميات كبيرة، وفي الغالب أكسب 10 آلاف ليرة” وربما أكثر، ويرتبط المردود الذي أحصل عليه بالكميات التي أجمعها وبوزنها وأسعارها.
خارج المدرسة
” أحمد- عدي- فلاح “، ثلاثة أطفال بأعمار 12 عاماً، تجدهم منذ الصباح الباكر عند إحدى حاويات القمامة، يجمعون ما يُمكن بيعه من ( توالف و فوارغ ) للخانات المنتشرة بالمدينة. وجودهم صباحاً سيجعلك حتماً تسأل لماذا ليسوا على مقاعد الدراسة ؟، فيأتيك الجواب بصوتٍ واحد تهكّمي، تُرافقه مسحة حزن : ( عمو بدنا نعيش ).
يُشير أحمد إلى أنه يبدأ العمل باكراً للحصول على كميات أكبر، هو يجمع الكرتون و”التنك” والعلب الفارغة: ” غلاء المعيشة أبعدني عن إكمال دراستي، تعلمت حتى الصف الرابع من مرحلة التعليم الأساسي، وأنا منذ عامين خارج أسوار المدرسة” .
فيما يلفت عدي إلى أن هذا العمل وفّر مالاً لعائلته ويضيف: ” أبيع الكيلو الواحد من المعلبات ومن مادة النايلون بـ2500 ليرة، التنك 600 – 700 ليرة ، أما كيلو الحديد، فيصل إلى 1000 ليرة ، والكرتون 700 ليرة.
ويؤكد فلاح أن تبكيرهم للعمل يأتي لاستباق الآخرين، فعمل كهذا بات يستقطب أعداداً أكبر، أغلب الأطفال يعملون في الصباح، فيما ليلاً يغلب الرجال.
الخانات
وإن بدت هذه المهنة في الظاهر عشوائية، غير أن ثمة تنظيماً لها، يملكه من يشتري ما يجمعه هؤلاء، والحديث هنا عن أصحاب الخانات، أي الأمكنة التي خُصصت لوضع ما يُجمع فيها، فهؤلاء هم “أرباب الكار”، فيما يُسجل حالياً تزايد في أعدادها، مُقارنةً بسنوات ما قبل أحداث الأزمة في سورية.
يؤكد محمد باطوس – صاحب خان، أن أعداد الخانات لم تتعدّ الـ 5 قبل سنوات الأحداث، فيما هي الآن تتراوح ما بين 50 – 60 خاناً، وفي مدينة الميادين قرابة الـ3، كذلك ثمة أخرى في مدينة البوكمال، مبيناً أن هذه المواد تُشترى من جامعيها، ومن ثم تُشحن باتجاه معامل الصهر، سواء إلى المدينة الصناعيّة في حسياء أو عدرا وحماة.
بلا حول
من المُسلّم هنا أن ضغط الواقع المعيشي، دفع بالكثير من العوائل للعمل بمهن ما كانوا ليعملوا بها سابقاً، ليس العمل بمعيب هنا، فالمُعيب هو أن يمدّ المرء يده ويسأل الناس، لكن ثمة مخاطر تطول من يعمل بهذه المهنة، وهم حتماً الأطفال ممن قد يتعرضون لتعديات من قبل ضعيفي النفوس، ناهيك بابتعادهم عن مدارسهم، فيما تبدو الجهات الحكومية المعنيّة بلا حول ولا قوة لتعمل على الحدّ من منعكساتها السلبيّة عليهم.
فحسب حديث معاون مدير تربية ديرالزور لشؤون التعليم الأساسي إياد شهاب لـ” تشرين “، فإن مديريته خلال السنوات الأخيرة وما أفرزته الأحداث من تغييب للتعليم، عملت وفق برامج عدة على دمج الكثير من التلاميذ بمدارسهم، مشيراً إلى أن وضع هؤلاء الأطفال يتطلب تعاوناً من الأهالي بشأن مواصلة تعليمهم، علماً أن إلزاميته لاتزال ضمن توجهات وزارة التربية .
في حين يشير مدير الشؤون الاجتماعية والعمل أحمد اطليوش الشتات، إلى أن متابعة أوضاع العمالة يقتصر على المنشآت الخاصة، لجهة قضايا التأمين وسن الأطفال إذا كانوا يعملون، وذلك عبر مفتشين يقومون بزيارات دائمة لمواقع العمل، وحسب القوانين لا يجوز العمل للطفل هنا لمن هم تحت سن 15 عاماً ، وألا يعمل من تتراوح أعمارهم ما بين 15 – 18 عاماً في الأعمال الخطرة، وفي العموم، فإن هؤلاء الأطفال لا يعملون لدى جهة محددة، بل كحال البقية ممن يعملون بهذه المهنة، فهم يقومون بذلك بشكل إفرادي.
وحول ما يمكن أن تُقدمه الجمعيات الخيريّة من معونات لعوائلهم يساعدها على تدبر شؤونهم، أكد الشتات أن هذا يحتاج برامج دعم كبيرة وتمويلاً مرتفعاً، لا يتوافر بما يُمكن من كافة العوائل الفقيرة، وهذا الأمر يحتاج تدخل أهل الخير كلّ بمنطقته، مدينته، بلدته أو حيّه، ليقدم المساعدة لهذه العوائل، علماً أن الجمعيات الناشطة بالعمل الخيري وبالتنسيق مع مديرية الشؤون الاجتماعيّة والعمل، تعمل بين الفترة والأخرى على برامج دعم ضمن المستطاع والمتوافر من الداعمين.