العلم في الأسر
تشرين – إدريس هاني:
– قدر المعرفة أن تكون استنتاجية، أعني هنا أنّها راجحة، والمرجوح منها مُحتمل، والاحتمال أكبر من مقدّمات الاستنتاج، بل إنه غير محدود، حيث إنّ ما سعت إليه الفوضوية الإبستيمولوجية، هو أنّ الاستنتاج ليس ضامناً بالضرورة، أي لا ينتج معرفة نهائية، دعنا نفكر بطريقة أخرى: ما حجية الاستقراء؟ إذا كان منطقياً لا ينتج معرفة حاسمة، فمن أين يستمد حجّيته؟ سيُصبح الدليل هو إثباته من ناحية العادة، الغالب على الاستدلال هو الاستنتاج، وغالباً ما تصحّ نتائجه، ويُصبح الدليل على الاستقراء هو الاستقراء، استقراء الاستقراء: دور منطقي، هذا ما سيدفع بفيرابند إلى خرق قواعد الاشتباك، العلم مغامرة، وغالباً ما يظهر طريقه فيما بعد، المنهج هنا سيرة ذاتية للعلم بأثر رجعي.
– حين نقتحم مجالاً جديداً، تُصبح بعض القواعد عبئاً على العلم، حاجبة، مُشوّشة، ألا يكون الأولى عدم الاكتراث بتعديل الحزام الواقي، في اختبار النظرية كما عند بوبر وبرامج البحث كما عند لاكاتوس.
مسارات العلم الطويلة تجعل انهيار النموذج أو تعديل الحزام الواقي، تأخذ وقتاً طويلاً، يجعل العلم يزحف ببطء مُمل، فحينما يكون حمل العالم خفيفاً: حدس فائق وتحرر من سلطة الفرضية، ابتكار وتعديل غير آبهٍ بمصير الفرضيات الكلاسيكية للنموذج، سنقتصد الكثير من الوقت، ونحقق كثيراً من النتائج المذهلة.. لقد أصبح هناك تحدّي مزدوج للعلم: المُحافظة التي تجعله رهينة لتقادم النماذج أو استنزاف برامج البحث، وهناك عامل المُقاولة، الرأسمال الرمزي الجبان، الرقابية الذاتية، الخوف من انهيار النموذج، تمويل البحث، الاقتصاد السياسي للمعرفة، وتسويق مخرجات العلم.
– إنّ حالة الحذر يتعين أن تظل قائمة، ليس من حواسنا فحسب، بل من عقلنا، لأنّنا ما زلنا لم ندرك حدوده، ما زلنا في حدود أداتيته، يحدث أن تنهار قواعدنا، في حوادث سير المعرفة، شيء واحد يظل قائماً، واحد فقط، ومعوّل عليه، هو ما تبقى من نور نتحسس به وجهتنا في مسار غير آمن، هذا الشيء هو حدسنا، هو وحده الذي يحقق الاستئناف، ويحدّد البداية.
– علينا الاستمتاع بمعاكسة الفرضية، نُلاعبها إلى حين تكشف عن عدم جدواها، لا حدود للفرضية، والفرضيات لا تورث، نؤكد أنّنا سادة على أدواتنا، أحرار في اتخاذ القرار، لننصت إلى ما يؤشر إليه حدسنا، نتطلع بحذر، نمنح القواعد مساحة موضوعية لا تتجاوز الاختبار، فليس مبالغة أنّ الفوضوية أكدت عبر أكثر من مثال أن الاكتشافات العلمية غالباً ما تأتي بخلاف المتوقع، من القواعد والمنهج.
– ثمة نضال آخره لم يخضه العلم بعد ضدّ مستعبديه تحت طائلة سُلطة النموذج والبرنامج والقواعد المأثورة، معركة تحرر لا تقلّ ضراوة عن كل أشكال مناهضة الامبريالية.. إنّ العلم في الأسر خاضع هو الآخر للقمع، لسوء التوزيع، لقوى المصالح، هذا فضلاً عن أنّه يقع خارج الشّفافية.. لقد بات إجراء باطنيّاً، عندما أصبح جزءاً من الرأسمال المادي، ودخل في سياسة الاحتكار، التضليل، المقاربة الجيوستراتيجية، الابتكار كتهديد للأمن الدّولي.. لا أحد اليوم يملك أن يهتف: أوريكا، إنّ العالم لا يملك فائض القيمة العلمي، ولا أدوات إنتاجه، ولا التفكير فيه خارج ما تقرر في برنامج البحث.
– فرق بين عبادة المنهج واختباره، يتشكل هذا الأخير من داخل الخبرة العلمية، لكن ديمومة القواعد وكونيتها بدأتا تُقلقان إبستيمولوجيا وفلسفة العلم، النظام التربوي يعزز عبادة المنهج بدل احتوائه.. إنّ ما تتطلع إليه الثورة العلمية هو تحصيل الذّوق العلمي، روح العلم، فلسفته، أمّا قواعده فهي للاستيعاب لا للعبادة، العلم ينمو بالحدس المواكب للتجارب، وليس بالتنزيل الأبدي لقواعده، كما أنّه ليس ممارسة قياسية، حيث استحالة القياس ولا نهائية العالم.
كاتب من المغرب