قوت الشعوب تحت السوط الأمريكي

تشرين- هبا علي أحمد:

نجوّع الشعوب ونقضي على سيادة دولها غذائياً وبذلك نسيطر على العالم ونحتكر سلاسل الإمداد.. إنها أحد أهم وأخطر الأسلحة الأمريكية الغربية في القضاء على أمن الشعوب واستقرارها، فالأمن الغذائي هو الركن الأساس في مجمل الأمن القومي والركن الأساس في السيادة والاستقرار، لذلك فإن سلاح التجويع أخطر بمئات بل آلاف المرات من الطائرات والأسلحة الفتاكة، حتى يمكن موازاته بتأثير قنبلة شديدة الانفجار بما تتركه من تأثيرات طويلة الأمد.. إنه ببساطة طريقة «نظيفة» للسيطرة والإعدام الجماعي في آنٍ.

في كل جرائم الحروب الأمريكية يبرز سلاح الغذاء بشكل أو آخر، وأهداف السيطرة على سلاسل الإمدادات الغذائية واحتكارها لإخضاع الشعوب، وهنا يبرز الحديث عن الأهداف الكامنة لذلك عبر استهداف التنمية المستدامة وحرمان الشعوب من إنجاز تنميتها وحرمانها من مقدراتها وثرواتها التي تنجز بها تنميتها وتحصن نفسها ذاتياً عبر اكتفاء طويل الأمد في شتى المجالات، ورغم أن الصورة واضحة لكن تثار في بعض الأحيان تساؤلات حول كيف يتم الاستهداف؟ أي كيف تستهدف التنمية و مقدرات الشعوب؟

الإجابة في العرض التالي:

حرب البذور والسيطرة على سلاسل الإمداد الغذائية:

قد لا يكون العنوان جديداً، لكن تسليط الضوء عليه باستمرار هو حاجة ملحّة اليوم ولاسيما مع أزمة الحبوب ونقلها وما ثار حولها مع بداية الأزمة الأوكرانية والظروف الدولية الجيو استراتيجية الراهنة.

وللتذكير حرب البذور تعني احتكار البذور والتحكم بالزراعة والمحاصيل على مستوى العالم أي التحكم بسلاسل الإمداد الغذائية، لتحويل الأمن الغذائي للدول إلى مصدر تهديد، وتركيز هذا السلاح في أيدي قلّة قليلة بما يضمن سيطرة متمكنة ونفوذاً وأرباحاً في آنٍ معاً، وطبيعة المعركة إن صحّ القول التي تديرها تلك القلّة القليلة تتم باستبدال المحاصيل المحلية بأصناف موّحدة مستوردة معدلة وراثياً وعقيمة أي لا تنتج إلّا موسماً واحداً، لكن القصة لا تقف عند ذلك، فهذه الأصناف تحتوي على مضاد للحشرات يقضي على أنواع عدة من الحشرات الضرورية للتوازن البيئي، كما قد يؤدي إلى قتل أنواع من الحيوانات التي تتغذى على هذه النباتات المعدلة وراثياً.

الحروب العسكرية الأمريكية الواجهة لحروب غذائية أشد فتكاً.. احتكار البذور عنوانها الأبرز..

تخوض أمريكا حروبها في كل بقاع العالم تحت دعاوى كثيرة تتكشف خيوط كذبها لاحقاً، لكن نكتشف أيضاً أن هذه الحروب ومعها الفوضى المفتعلة بشكل يومي أنها واجهة لما هو أبعد وأكثر خطورة، ونكتشف أن الموت بسلاح تقليدي أهون بكثير من الموت بسلاح غذائي لأنه موت بطيء وتدريجي وهذا ما تتعمّده الولايات المتحدة بالضبط.. فكيف ذلك؟

الوقائع تتحدث.. لنبدأ من سورية

على مدار الحرب الكونية على سورية كان استهداف الأمن الغذائي متقدماً وموازياً للحرب العسكرية وشاهدنا كيف قامت الولايات المتحدة بحرق محاصيل القمح في فترة من الفترات، وكيف تسرق وتنهب الثروات، وكيف قدمت بذوراً عقيمة للمزارعين للإضرار بالبيئة الزراعية، تشكل وباء قد ينتشر إلى جميع الأراضي المحيطة بها، حيث سيكون الإنتاج في الموسم الأول ضعيفاً جداً وغير منتج لأربعة مواسم متتالية، وبالتالي التحوّل من الاكتفاء الذاتي في مجال البذور إلى مستورد، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحدّثت تقارير أمريكية عن «صفقة تهريب» للحبوب السورية في الفترة الممتدة من 2012 و2014 تحت مزاعم تأمينها في مكان آمن يطلق عليه «قبو يوم القيامة»، مؤكدة أن تلك البذور هي من أهم المحاصيل في المعمورة، وذات قيمة لا تقدر بثمن تضمنت حوالي 116 ألف عينة، ووزعت منها سابقاً 300 بذرة في لبنان والمغرب، ليس ذلك فحسب بل أفادت تقارير أخرى باستفادة الولايات المتحدة ذاتها من جودة القمح السوري، إذ أنقذ قمحنا موسم الزراعة الأمريكي عقب موجة جفاف في عام 2018.. ولابدّ من الإشارة إلى أن سورية كانت مقراً لمراكز بحوث زراعية معروفة على مستوى العالم، وأحد أكبر بنوك البذور عالمياً، التي تخزن فيها آلاف الحبوب البلدية والنباتات البرية.

وفي العراق أيضاً الوقائع تتحدث:

هنا نكتشف أن كذبة أسلحة الدمار الشامل تفصيل صغير في تفاصيل أعمق، وأكثر من مجرد حرب عسكرية أيضاً.. إنها استهداف ممنهج لحضارة العراق الزراعية بغية تدميره وجعله تابعاً غذائياً مع تحويله إلى معمل تجارب للقمح المعدل وراثياً، إذ دمرت القوات الأمريكية عند دخولها العراق بعض المنشآت الحضارية غير المرتبطة بالأعمال العسكرية، ومنها مركز «أصول» لتربية وإنتاج الدواجن فرع سامراء، كما دمر المركز النباتي لتربية وتسمين العجول، والأهم من ذلك دمرت القوات الأمريكية مركز «أبو غريب» للبحوث الزراعية، الذي حولته إلى سجن أبو غريب الأمريكي سيىء الصيت.

حتى السعودية ومصر لم تسلما.. تحويل المياه إلى فزاعة لتحقيق مآرب أخرى، والسد الإثيوبي في الواجهة.. كيف ذلك؟

نتيجة توسّع السعودية في زراعة القمح وتصديره، كزراعة إستراتيجية، اعتبرت أمريكا أن ذلك فيه إهدار للمياه الجوفية، ما دفع الرياض إلى التوقف عن زراعة القمح والاعتماد على الاستيراد بعد أن كانت دولة مصدرة له.

«الطريقة النظيفة» لتدمير الدول وتفقير شعوبها هي باستهداف أمنها الغذائي عبر السيطرة على سوق البذور العالمية والتحكم بإمداداتها التجارية

وتشير معلومات بخصوص السد الإثيوبي إلى أن أحد أهم أهدافه الأمريكية الحقيقية تقنين كميات المياه المتدفقة إلى مصر لإجبارها على الاستيراد الزراعي من الغرب ولجم توسعها في الإنتاج الزراعي مستقبلاً.

في اليمن، تم إتلاف الكثير من شحنات البذور المستوردة خلال السنوات الماضية والتي ثبت أنها عقيمة تترك آثاراً سلبية على البيئة الزراعية.

قبو يوم القيامة.. ما العلاقة بكل ما سبق؟

تم الحديث عنه لأول مرة ٢٠٠٨ من النرويج ويقع في القطب الشمالي وجمعت فيه عيّنات من بذور النباتات من أنحاء العالم تحسباً لكارثة طبيعية أو وباء أو حرب نووية تأتي على المحاصيل الزراعيّة وعلى البذور، وهو يتسع لتخزين ثلاثة ملايين عينة من البذور المختلفة، وآخر شحنة وصلت إليه من سورية عام ٢٠١٤.

الذريعة هي الحفاظ على تنوّع المحاصيل إلى الأبد، لكن تتبع مسار التمويل والسيطرة يكشف بما لا يدع مجالاً للشك أنه آلية مخطط لها لاحتكار البذور والهيمنة على الزراعة الطبيعية وفرض الزراعة الصناعية.. إذ إن الشركات المصنعة للبذور تأتي في مقدمة الجهات المانحة لمصرف البذور وبإمكانها وحدها الحصول على البذور وإعادة تأهيلها جينياً لتوزيعها على السوق، إلى جانب ١٩ دولة غربية تموّل القبو، وكما تؤكد التقارير أن هذه الدول والشركات ذاتها تقوم بتدمير التنوع البيئي في العالم وخاصة المناطق الزراعية في إفريقيا وآسيا للسيطرة والنفوذ وتحقيق الأرباح.

الخلاصة..

من الواضح أن الاتجاه الاستعماري اليوم نحو تجويع الشعوب والتحكم بمصادر قوتها كجزء من استعمار كبير يتحين الفرص لاستعباد الشعوب وجعلها في حالة تبعية زراعية واقتصادية وغذائية وفي شتى المجالات.. وأمام هذا الخطر المحدق بالعالم لابدّ من تفعيل آليّات زراعية تعاونية مشتركة بين دول إقليمية متجاورة في مختلف بقاع العالم تماماً كما التكتلات السياسية والاقتصادية، وتماماً كما عمليات المقاومة العسكرية فإننا بحاجة ملحة لإستراتيجية مقاومة زراعية لمواجهة الاستعمار في أشد مراحله خطورة.

اقرأ أيضا:

أميركا في سورية.. إرهاب اقتصادي يستهدف بذور سر الأمن الغذائي.. و إيصال الأراضي إلى حالة العقم هدف واضح

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار