تداعيات الزلزال تصل إلى التشكيل السوري وتصنع مدرسة جديدة
تشرين-سامر الشغري:
بسرعة لافتة وصلت أحداث الزلزال بصورها وآلامها إلى اللوحة التشكيلية السورية المعاصرة، وأصبح لدينا للمرة الأولى ما يصحّ أن نطلق عليه (فن الكوارث الطبيعية)، حيث وجد فنانون تشكيليون سوريون مقيمون ومغتربون باختلاف انتماءاتهم ومشاربهم في هذا الحدث مادة خصبة للرسم، فقدموا عشرات اللوحات بأسلوب تحاشى التسجيلية وانحاز إلى الفنية، بشكل رمزي تارة وتعبيري تارة أخرى.
في لوحة “زلزال” للفنانة التشكيلية ثناء نبواني، سنجد أسلوب الفنانة الواقعي المعهود من خلال صور أشخاص حقيقيين جلّهم أطفال ناجون من الزلزال، لتخرج من بين الركام زهرة تشق طريقها بين الفوضى ترمز للأمل.. وبأسلوب تعبيري محض استنهض الفنان التشكيلي إبراهيم حميد عبر لوحته “رسائل من تحت التراب”، المعاني المؤلمة للحدث مع الإيمان بتجدد الحياة، فالأشخاص الذين دفنوا تحت الأنقاض تحولوا إلى أشجار خضراء نضرة، وكأنه أراد أن يقول إن هذه التجربة المريرة ستعلّمنا كيف نعيد بناء ما تهدم.
ووظف الفنان التشكيلي علي الحسين الألوان السوداء والقاتمة في لوحته “أحياء تحت الركام” لتصوير مآل أمهات وآباء وقد غمرتهم الأنقاض واحتضنوا أطفالهم في حالات مختلفة ولكنه تركهم عالقين للأبد، فليس فوقهم فرق إنقاذ أو بحث، بل أرض خالية وجبال راسية.. كما وجد الفنان التشكيلي عبد الله مراد في الرمزية ضالته لتناول هذا الحدث، إذ رسم في لوحته “تصدع” خطاً أحمر طالعاً من باطن الأرض إشارة للدم المسفوك تحت فضاء قاتم متجهم، موظفاً اللون الأصفر الذي كان دائماً إشارة للموت.
وكانت الألوان الرمادية بطلة لوحة الفنان عصام درويش، ففي لوحته امرأة تنوح بصمت وهي تضع يدها على فمها، وخلفها نافذة مشرعة على منظر لبيوت تتداعى وغبار كثيف يلف الأجواء، وطفل يتأمل هذا الرعب من حوله.. فيما استوحى الفنان التشكيلي موفق مخول لوحتيه من عالم الغيبيات من “البحث عن أرواحنا بين الأنقاض”، و”الصلاة على روح ضحايا الزلازل”، بين أرواح تسلك طريقها وسط الدمار، وأخرى آمنة ومطمئنة.
ونحت لوحة الفنان التشكيلي المغترب إبراهيم برغود “انتهى الكلام” إلى التجريد المحض، ففي قسمها العلوي سماء ضبابية متشحة بالدخان أما السفلي فتطغى عليه الألوان القاتمة والسوداء، ولا شخوص واضحة في العمل سوى الموت والدمار.. وتأثرت لوحة الفنان أسعد عرابي “مجتمع الزلزال” بالرسم الرافدي ، فهي مقسمة إلى مربعات احتوت شخوصاً بأسلوب تجريدي، لأمهات يحملن أبنائهن وثوراً أحمَر يرمز للحياة بمواجهة الموت، ضمن خلفية دمجت الألوان الحارة بالباردة وعكست ضجيج الكارثة وسكون الموت.
الفنان التشكيلي المغترب مازن قوتلي انتقى للوحته عناصر رمزية الطابع، ففي الأسفل إشارة لدرجات مقياس ريختر، وفي الأعلى شبكة عنكبوت إشارة لوهن البيوت، وتصدر اللوحة رجل وقف أمام بيته المنهار يتأمل في هذه الكارثة.
وبوسع الناظر للوحة الفنان التشكيلي طلال معلا “باقون”، استخلاص انتمائها للتكعيبية من خلال المزاوجة بين أشكال البيوت المنهارة، والمرأة الثكلى التي أدارت وجهها للدمار وكأنها لا تريد أن تراه.. الفنان التشكيلي سرجون بولس اختار زمناً غير متوقع مع لوحته “سكون قبل الزلزال”، حيث نجد وجوهاً لم تكن تعرف ماذا ينتظرها، ولكنها كانت تتطلع دونما تركيز، متوقعة حدوث شيء لا تعلم كنهه.
أما لوحة الفنان هيثم الصايغ فاعتمدت البساطة والمباشرة لتناول ما خلفه الزلزال من موت، إذ نرى تحت الأنقاض أمّاً خائفة مفتوحة العينين وقد احتضنت أطفالها، فامسك أحدهم دميته فيما أغمض الثاني عينيه مستسلماً.. ومن المغترب رسم الفنان التشكيلي عمر عزت هبرا لوحتين جاءت الأولى صادمة بغزارة اللون الأحمر المتدفق من مبنى منهار وقد خرجت منه أطياف سوداء، ووقفت شخوص أخرى تتفرج على المنظر الرهيب، بينما كرّس في لوحته الثانية حالة الانتظار المؤلمة.. ويرجع الفنان عمر نزوع أغلب اللوحات المرسومة عن الزلزال نحو الرمزية والتعبيرية، إلى قساوة الحدث ما يجعل هذين الأسلوبين الأنسب للمتلقي وتركه ليقدر وقع ما جرى.
ظاهرة دخول التشكيل السوري عالم الكوارث يصفها الناقد التشكيلي عمار حسن بالأمر الجيد لجهة التشارك بين الفنانين وتسخير الفن لغرض إنساني، لرصد كارثة مثل الزلزال ترجع لعوامل طبيعية لا دخل للإنسان فيها، خلاف مواقفهم المتباينة من الأحداث السابقة ولاسيما الحرب على سورية وتفضيل الكثيرين للحياد.
ويؤيد حسن سرعة التأثر بكارثة الزلزال عند التشكليين لأنها تأخذنا إلى طزاجة الانفعال وحركته الآنية، وقد تحقق فنية بدرجة أكبر لأنها تسمح للفن التحرر من ضبط التعبير وحركة الريشة والخط ومألوفات التوزيع اللوني..
ويرى حسن أنه الأجدر بنا تصنيف هذه اللوحات ضمن المدرستين التجريدية والتعبيرية، ولاسيما أن الأخيرة من خصوصيات التشكيل السوري والعربي، ومن الطبيعي أن يرسم الحدث بلغة تعبيرية وغير مباشرة، ليكون فضاء اللوحة أكثر قدرة على عكس رؤية وانفعال الفنان، مشبهاً الأمر بفضاء مسرحي يقدم خصوصية رؤية الفنان وشكل معالجاته للحدث وليس مجرد نقل الصور الخارجية لتكون العرض.