برز من خلالها الوجهُ الحضاريّ لسورية.. ثلاثون عاماً على تأسيس الفرقة السيمفونيّة الوطنيّة
تشرين- إدريس مراد:
حلمه لم يتبدّد، منذ أول حفلة قدمها عند مجيئه إلى سورية، حيث كان يدرس الموسيقا في بريطانيا، وذلك عام 1957، إذ استطاع الراحل صلحي الوادي تأليف فرقة سيمفونية صغيرة، لغاية تقديم أول حفلة موسيقية سيمفونية بأوركسترا صغيرة في قبو فندق أمية الجديد، لتكون الخطوة الأولى نحو تحقيق الحلم، وبعد تأسيس المعهد العالي للموسيقا، وبقرار رئاسي عام 1992 تم إحداث الفرقة السيمفونية الوطنية السورية، وقد قدمت الفرقة باكورة حفلاتها بقيادة المايسترو صلحي الوادي في الخامس عشر من شهر كانون الثاني عام 1993، على مسرح قصر المؤتمرات. وبعدها بعامين وبالتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني، قدمت أول أوبرا اسمها «دايدو وإينياس» في قصر المؤتمرات، ومن هنا بدأت مسيرة الأوركسترا تدخل إلى الساحة الموسيقية السورية.
ضرورةٌ وطنية
تشكلت الأوركسترا السيمفونية الوطنية السورية، كضرورة وطنية ثقافية، وجاءت نتيجة طبيعية لإحداث المعهد العالي للموسيقا، حتى عام 2011 كانت جزءاً من المعهد العالي للموسيقا، إذ خطا بهما٢ الوادي خطوتهما الأولى، والتي جعلت الأوركسترا تظهر ظهوراً لائقاً ومرموقاً في سورية وخارجها، وبعد هذا التاريخ اتبعت الأوركسترا السورية إلى دار الأسد للثقافة والفنون.
مثلت هذه الفرقة سورية في الكثير من المحافل والمهرجانات العربية والدولية واستطاعت أن تبرز وجه سورية الحضاري في كل الدول التي عزفت فيها، ولها العديد من الحفلات والنشاطات التي حفرت في الذاكرة، منها حفل الافتتاح الرسمي لدار الأسد للثقافة والفنون -أوبرا دمشق، أيار 2004 وحفل افتتاح دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 بقيادة ميساك باغبودريان، وأيضاً الحفلة التي عزفت فيها مع المغني العالمي بلاسيدو دومينغو ومغنية السوبرانو العالمية كاللين إسبريان بقيادة الألماني يوجين كون ضمن مؤتمر «التعليم بلا حدود» الرابع في الإمارات العربية المتحدة عام 2007، وحفلة بمناسبة مرور مئة سنة على ولادة الموسيقار الأرمني آرام خاتشادوريان 2003 وبرعت في تقديم بعض أعمال هذا العبقري، كما قدمت الفرقة العمل الأوبرالي الكبير زواج فيغار، وباليه شهرزاد، والحفلات التي خصصت لأعمال المؤلفين السوريين.
النجاح المستمر
لا يمكن إنكار حقيقة أن الموسيقار صلحي الوادي قد أسس الفرقة على أساس متين، وعبر بها إلى شط الأمان بعد نجاحات عظيمة حققها داخل الوطن وخارجه، وبعد مرضه راهن الكثير على نهاية الفرقة، ولكن المايسترو ميساك باغبودريان كسر هذا الرهان حين تمّ استدعاؤه بعد مرض «الوادي» حيث كان يدرس قيادة الأوركسترا في المعاهد الموسيقية الإيطالية مدة خمس سنوات ليواصل مسيرة أستاذه صلحي ويضيف أسلوبه أيضاً،ويحقق نجاحات لا يستهان بها، وما زالت مسيرة الفرقة مستمرة في سورية وخارجها، سواء بقيادة باغبودريان أو بقيادة ضيوف تدعوهم الفرقة من كل بقاع الأرض، وأعطت الفرقة خلال مسيرتها أهمية خاصة للعازفين والمؤلفين الموسيقيين السوريين الأكاديميين.
شهاداتٌ عن فرقتنا
في كل عام تستضيف الفرقة بعض قادة الأوركسترا من العالم، ومن هؤلاء المايسترو خوسيه مولينا من جمهورية الدومينيكان الذي قاد الفرقة في حفلتين الأولى في دمشق والثانية في الإمارا ت العربية المتحدة، وخصصت هذه الحفلة للموسيقا من هذه الجمهورية البعيدة عنا جغرافياً تحت عنوان «موسيقا من بحر الكاريبي» بعد أن انضم إلى فرقتنا السيمفونية بعض من موسيقيي جمهورية الدومينيكان ولاسيما عدد من الآلاتهم الشعبية، موسيقا هذا البلد وآلاتها الشعبية غريبة عن موسيقانا، ورغم ذلك نجحت فرقتنا وانسجمت بسهولة، وقدمت حفلة سجلت في مسيرتها، وهذا ليس إلا دليلاً على مستواها الرفيع.
وعن رأيه في الموسيقيين السوريين قال خوسيه مولينا حينها: « وجود آلات شعبية كاريبية في أوركسترا سيمفوني وبالأخص الأوركسترا السورية التي تعد من أميز الفرق في المنطقة، هو إنجاز كبير في حد ذاته، أجادت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بإتقان رغم أٍنها بعيدة عن ثقافة أعضاء الفرقة».
وحفلة أخرى بقيادة المايسترو سانت كلير من الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أدت الفرقة فيها عملين كبيرين للمؤلف روبرت شومان، كما عزفت السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي بنجاح كبير.
حينها قال كلير: «هذه زيارتي الأولى لسورية، ولكني التقيت بالأوركسترا السورية خلال زيارتها إلى أمريكا عام 1998وقدمت حفلة في القاعة نفسها التي أقدم فيها حفلاتي، وحينها كانت بقيادة الراحل صلحي الوادي، واللقاء الثاني كان عام 2009 عندما زارنا المايسترو ميساك على رأس مجموعة من الموسيقيين السوريين كعازفي صولو على الآلات الشرقية التقليدية وغيرها، وشاركنا أنا وباغبودريان في قيادة الأوركسترا الأمريكية بمرافقة عازفي صولو (عازف منفرد)، سوريين، وقدموا أعمالاً موسيقية سورية. وأخذت من الأوركسترا السورية أشياء عدة منها الرغبة في العمل الجدي، وهذه الروح التعاونية فيما بينهم إضافة إلى الانفتاح الواضح عند الموسيقيين السوريين، وهذه الصفات الإنسانية مهمة جداً، وينبغي على أي شخص يمر على هذه الأوركسترا أن يستفيد منها».
وفي هذا الإطار أيضاً دعت الفرقة المايسترو البيلاروسي بيوتر فانديلوفسكي من بيلاروسيا، ليقودها في حفلة أقيمت في دار الأوبرا الدمشقية. وعن هذه الزيارة قال البيلاروسي: «أنا سعيد جداً وأنا اليوم في سورية وخاصة بوجود فرقتها السيمفونية حيث الموسيقيون الجيدون، باستطاعتهم التفاهم والانسجام، ما كنت أتخيل بأن أخرج بالسيمفونية 40 لبيتهوفن ببروفة واحدة فقط مع أعضاء السيمفونية السورية، وهذا ليس دليلاً إلا على مستواهم الفني الجيد». هذه الشهادات من كبار الموسيقيين العالميين تعني بأن فرقتنا اليوم تضاهي بعض الفرق العالمية.
كما نالت إعجاب العديد من النقاد خلال جولاتها خارج القطر، فكتبوا عنها عشرات المقالات ومن إحدى الصحف الإيطالية، وهي «كوريرة أدريانيكو»، نقتطف سطوراً من مقالة كتبت عن حفلة السيمفونية السورية هناك تحت عنوان «حدث موسيقي في مسرح الأكويلا- الكل سحروا من الأوركسترا»، وتابعت الصحيفة: «نجاح كبير حصلت عليه الفرقة السيمفونية الوطنية السورية الليلة الماضية في عرضها على مسرح الأكويلا في جولتها الأولى في إيطاليا، تصفيق حار لأعضاء الفرقة الذين أهدوا إلى جمهور مدينة فيرمو حفلة للذكرى، فهذه الأوركسترا بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان الذي استطاع رغم شبابه إثبات احترافية عالية، أثبتت أنها لا تبتعد عن مثيلاتها ذات الباع الطويل في سجلاتها…».
هذه الفعاليات ليست إلا قليلاً من مسيرتها التي برز من خلالها الوجه الحضاري لبلدنا، واليوم والفرقة السيمفونية الوطنية السورية في الثلاثين من عمرها مازالت تقدم ما هو الأجمل، ورغم الحرب والقذائف التي كانت تنهال على مبنى الأوبرا لم تتوقف الفرقة بقيادة قائدها الأساس ميساك باغبودريان يوماً من العمل،وبرهنت أن المسيرة مستمرة والبرامج ستبقى غنية رغم هجرة بعض الموسيقيين إلى خارج البلد.