روى الكاتب المصري المعروف أنيس منصور أنه عندما حضر فيلم (كارمن) وكان يومها في الجامعة يدرس الفلسفة، كتب نقداً للفيلم بشكل مسهب، وهذا كان في الخمسينيات من القرن العشرين حيث كان يكتب في الصحافة، ويتابع منصور هذه الرواية في حديث أدلى به بعد أكثر من 50 سنة أنه عندما عاد وشاهد الفيلم بعد سنوات وراجع المقال الذي نقد فيه الفيلم اكتشف أن (مقاله عن الفيلم ليس فيه شيء من الفيلم) كما قال، ويعترف أنه وجد في المقال ما فعله من (إلباس الفيلم أفكار الفلسفة التي كان يدرسها ومهتماً بها) وكما قال وجد أنه (استغل الفيلم ليبث أفكاره عن الوجودية أو الديكارتية أو، أو، إلخ) أي إنه استعمل الفيلم ونقده ليقدم أفكاره، وهكذا أكد منصور أن أسوأ ما يفعله الناقد هو أن (يجبر أي عمل فني أو إبداعي على الخضوع لأفكاره هو بدلاً من أن يخضع هو في نقده لما في العمل من بنية ومحتوى ولنقاش ما فيه) المهم أن منصور في مراجعته بما كتبه عن فيلم (كارمن) واعترافه بما فعله، قدم درساً في النقد وعن تكبر بعض المثقفين على الإبداع عندما ينصبون أنفسهم حكاماً وقضاة على الإبداع من دون فهمه أو استيعابه أو احترامه.
في الحقيقة ومع بهوت حضور وتأثير النقد في حياتنا الثقافية نستعيد تذكير أنفسنا بمسؤولية النقد المكثفة في فكرة (احترام المادة الإبداعية عبر فهمها واكتشاف بنيتها وأسلوبها ومعاني محتواها) لذلك فإن من يتسرع ليحكم أو يكتب من دون احترام أو فهم أو اكتشاف ميزات المادة الإبداعية فإنه يرتكب اعتداء وافتراء على المادة الإبداعية، وهو ارتكاب يسييء للثقافة والإبداع، ويدين صاحبه.
حتى في النقد التاريخي والسياسي استحضر ما قاله إسحاق دويتشر (نقد من دون حب عداء، وحب من دون نقد ولاء) وأضيف أن لا العداء ولا الولاء نقد أو ثقافة، وكلاهما سام للإبداع الثقافي والفكري والسياسي والتاريخي..