قمح بشار عريج يزهر وعلى موعد مع البيلسان
تشرين-راوية زاهر:
“ثمّ أزهر القمح” مجموعة شعرية لبشار زيد عريج، صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب ٢٠٢٢م.. وهي قصائد بين موطن بذكرياته، بقمحه وبيلسانه.. فتشنا عن حلمٍ، على ضوء الشموع والدموع، وهناك أضعنا البطولة، ليغني الشاعر للغياب على وقع حزن السنونو المهاجر.
مجموعة شعرية تكتنز بين طياتها سبعةً وأربعين نصاً شعرياً، تحكي قضايا الوطن والمجتمع، وتقوم على بحرٍ من المعارضات الشعرية لأصدقاء وشعراء، متمثلة بنصوص ذات عناوين فارهة: (فم آخر) معارضاً فيه صديقه ثائر زين الدين، قابيل والغراب، معارضة شعرية لقصيدة السراب للشاعر إبراهيم عباس ياسين،
وأخرى بعنوان (متى نستوطن الفرح؟) معارضة لقصيدة صديقه الشاعر فرحان الخطيب، وقصيدة (غَدُنا)، وكان آخرها قصيدة (رهام) معارضة لقصيدة (حفيدة هيلينا) للشاعرة هيلانة العبدالله قائلاً في قصيدته رهام:
“يا دهشة الأيام، يا لغةٌ
في الروح… لم يطفل بها قلمُ.
وإذا الهدوء أقام خيمته..
فاعلم نجوماً سوف ترتطمُ.”
ومع وقفة مع عتبة العنوان: “ثم أزهر القمح”، بدأ الشاعر بعنوانٍ لافت، فكما يعلم كلّنا أن القمح لا يزهر، فما السر في انتقاء صفة الإزهار للقمح؟ أضف لبدئه بحرف العطف (ثمّ).. كيف لعنوانٍ مكونٍ من تركيب أن يبدأ بحرف عطف، ويحمل دلالة الترتيب مع وجود فاصلٍ زمني، هذا يعني أن حدثاً ما سبق مرحلة الإزهار عند القمح، وبعد انتظارٍ طويل بحكم دلالة حرف العطف (ثمّ) أزهر وأينع.. وما الدلالة أصلا من لفظة (قمح).. هل رمزت إلى الخصب والنّماء، بعد موسم يباب؟ أم إلى الحياة المتجددة؟ احتمالات مفتوحة لعتبة العنوان المفترضة، كما يستوقفك الرابط المعنوي والدلالي بين البيلسان والقمح:
“وذهبتِ في عجلٍ
ولم يكُ بعد هذا القمح أزهر بيلسان
النهرُ ذا قلبي وأنتِ الضفتان
لا تحسبي أني بقيت هنا..
فروحي خاصمت هذا المكان
لحقتْ بك تبكي فضمّتْها بروحك راحتانْ
حتى غفتْ
فأنا وأنتِ الغائبانْ.”
ولا يفتأ يأخذنا الشاعر إلى عالم المسرح، فاستحضر “كركوز” في عودة إلى مسرح الظل، فكركوز وعيواظ مسرح من خيال الظل العتيق، وقد أحال الشاعر واقعنا إليه في تناصٍ واضح مع مسرح واقعي من حقيقة الظّل فقال شبه ساخرٍ:
“أيا عيواظُ..
آهٍ لو عرفتَ فداحة الفكرِ
فكلّ الأرض مثل السجن عند نهاية الأمر
متى تدري
بأنّ الظلّ أرحمُ منْ
شعاع الشمس في الظّهر.”
وجاءت اللغة شاعرية ترتدي وشاح المجاز، تسطّر من غرابة اللفظ وفرادته قلائد بديعية مميزة، وتحمّلُ الألفاظ طاقات شعورية هائلة تفوق قدراتها المعجمية، فاستخدم ألفاظا تنتمي إلى حقل القبح الجمالي اللغوي، الذي يعبر بقبحه عن المعنى المراد بكل جمال من قبيل (المَكب، القمامة، دمامل،) وقال أيضاً:
“أرواحهم نتنة كالعرق
لقد كنت عند الكثيرين نهر رحيق
فأصبحت في زمن الحشر
فوق الثرى مُبولة.”
واقتنص الشاعر الصّور من عالم الوصف المترف، لنحلّق بها في عالمٍ خياليّ مجازي رفيعٍ من الكنايات والاستعارات والتشبيهات بأنواعها التي تدغدغ الأحاسيس، وتثير المشاعر، وتقوم على إعمال الخيال في عالم الجمال.. (خبز الكناية، يد الريح): استعارة مكنية. (يد الرّيح تعبث في بلد الآلهات.
تدهن مرهم كنه الكناية)، (أحبك يا امر أة، يدها معول ، وريا ثغرها الكرزي بصل.) تشبيه بليغ إضافي.. (بصل) لفظة أدخلتنا في عالم الغرابة والدهشة.. (الرّيح تقهقه كالمجنون) تشبيه تام الأركان (الحبّ كالقمح) تشبيه مجمل.. (الجلنار فمٌ، أنا البدر) تشبيه بليغ، (وعدك يا كمون) كناية عن الإخلال بالعهد والوعد.. وكذلك نلحظ استخدام اسم الفاعل بكثرة للدلالة على الأوصاف المرتبطة بأسماء الفاعلين: (التّائهين، الرّاحلين، هائم، ناظر، تاجر، منتصِح). وكذلك نوّع الشاعر في استخدامه لأسلوبي الخبر والإنشاء، (أيا بدر ما هذا الضياء الكئيبُ؟) إنشاء، نوعه استفهام.
الخبر: مثاله :(الدربُ بين قصيدة وقصيدة
أنثى تلفُّ على المجاز شجونها) نوعه خبر ابتدائي لأنه خال من المؤكدات.
كما حضر الرّمز عند الشاعر بشكلٍ مباشر ك:(رابونزل) تلك الشخصية العالمية في قصص الأطفال تحبسها السّاحرة في برج شاهق العلو.
“أنتِ في البرج مسجونةٌ وأنا في الهواء سجين كذلك
ترى أين نمضي؟ ومكنسةُ الساحرات هنا وهنالك
تستطيع الوصول إلينا
من كلّ فجّ عميقٍ عميق.”
ومن رموزه أيضاً (بابا نويل) كرمز قديم إلى الإله بعل، ولا يخفى كذلك استخدام الشاعر للألفاظ العامية بشكل لطيف بعيدا عن الفجاجة، وبما يخدم المعنى بجمال ورونق خاص.(الطبيخ، الشّحالة) وتعني ما يقلم من غصون الشجر الزائدة.. قمح هويس: (الفريكة سنابل القمح المشوي)، الغميضة.
ولا يخفى في نصوص المجموعة التّوزع الموسيقي الذي يطرب الأذن، ويبعث على النشوة بين شعر التفعيلة والموزون لتضعنا النصوص بمواجهة مع شاعر له تجاربه وثقله الشعري في عالم الشعر العربي.
ليختم لنا كما بدأ بشيء من عالم القمح والعطاء نص بعنوان حكمة الأرض :
“من حنطته لا ييأس كرمُ
مهما القطربُ ينمو
يبقى الخير وفيراً
والمشهدُ يبتسمُ
والطيرُ به قلبٌ ويدٌ وفمٌ
إذ تشكر بارئها”.