الفنان التشكيلي هيسم قحف.. نحت اسمه في لوحة الجمال المضمخ بالحب ومضى
تشرين-نضال بشارة:
خسر المشهد التشكيلي في سورية منذ أربعين يوماً الفنان هيسم قحف، الذي مضى عن لوحة هذا الفن جسداً بعد أن كرّس بإبداعه المتجسد في منحوتاته أثراً جمالياً دائماً، فأقيم له أمس الخميس حفل تأبيني، وذلك بالتعاون بين أهل الفقيد واتحاد التشكيليين السوريين، في قاعة سامي الدروبي بالمركز الثقافي في حمص، وافتتح الحفل بقراءة الفاتحة على روح المرحوم هيسم، واعتذر شقيقه الزميل أيمن قحف عن عدم قدرته على الكلام لأنه حتى الآن غير مصدق رحيل شقيقه وإن كان يعيش طقوس التعزية، لكن الشقيق المحزون لم يستطع كتم حزنه الشديد خلال برنامج حفل التأبين عندما تحدث لنا عن ذكرى، خيوط نسيجها أن شقيقه كان قد وعده بهديةٍ ساعةً إن نجح وكان الأول في صفه، وكان أن حقق أيمن التفوق، ولما كانت الهدية حلماً مضى إليه مطالباً بالهدية وفق الوعد فقال له الراحل هيسم: سأهديك ساعةً من وقتي، ووقتها كانت خيبة أيمن كبيرة، لكنه الآن كما قال: “أنا على استعداد أن أدفع أي شيء مقابل أن أجلس معه ساعة”، وتمنى علينا أن نحافظ على علاقتنا بأشقائنا ما استطعنا، فنقل لنا حزنه بسهام أمضى من سهام “كويبيد”.
صلابة ورقّة
وتم خلال حفل التأبين عرض فيلم قصير سلط الضوء على حياة الفنان الراحل، كتب مادته الصوتية الزميل يعرب العيسى، التي ترافقت مع بعض الصور للفنان الراحل وبعضٍ من صور أعماله، وجاء في ما كتبه الزميل العيسى: بين مولده سنة 1961 ورحيله المباغت في عمر الـ 61 سنة، أنفق الفنان هيسم قحف معظم حصّته من الزمن محاولاً بثّ الحياة في الحجارة الصمّاء، مستخدماً أداتين فقط: إزميلاً مصنوعاً من الفولاذ وقلباً مصنوعاً من الحب وعشق الحياة والجمال.. فمنذ شبابه المبكر، وخلال تنقله بين مهن عديدة، ظهر شغفه بالفن والأدب، فكانت لوحة عظيمة من كلاسيكيات الفن التشكيلي توقظ في ذاكرته قصيدة يحفظها، فيقرأ القصيدة على اللوحة، ويشرح اللوحة للقصيدة. وبتراكم ثقافته الفنية وتتبّعه لمدارسها وروادها وأعلامها، اكتشف في سن الثلاثين من عمره أنه وقبل كل شيءٍ آخر: نحّاتٌ.
وكان الراحل هيسم من المحظوظين القلائل، الذين عرفوا في وقت مناسب لماذا جاؤوا إلى هذا العالم، وما عليهم أن يقدموا لأسرتهم وأوطانهم وللإنسانية، وقضى بقية حياته مخلصاً لهذه المعرفة، فتفرّغ لتشكيل البازلت والرخام، وتحويلهما من حجارة صمّاء مهملة إلى منحوتات تكاد تنطق بمنظوره ورؤيته للعالم المحيط به، فتعمّقت علاقته الحميمة مع الحجر، رغم التناقض الشديد بين صلابة الحجر وقسوته، وبين رقة هيسم وطبعه اللطيف اللين الدمث. وتنوعت منحوتاته بين المدرستين الواقعية والتعبيرية، على مدى ثلاثين عاماً، وإن كان أكثر ميلاً وإخلاصاً لمدينته حمص، التي ولد فيها، وعاش كل حياته بين حاراتها، وأسلمها جسده في النهاية لتحضنه في ترابها، وهي المدينة التي أحبها ونقل روح الحياة فيها إلى الحجر.
وكان للفنان التشكيلي أيمن الدقر شهادة في الفيلم قال فيها: كان الفنان هيسم قحف تعبيرياً، وكانت أعماله وطنية بامتياز، أقول وطنية ولا أقصد سياسية، أي تنتمي إلى تيار سياسي معين، بل وطنية شاملة، تعني الوطن بشكل عام وإحساسه بهذا الوطن بشكل خاص.. هو نحات متميز تعرفت عليه عام 1998، كان إحساسه بالوطن عاليا، إحساس مرهف، اعتمدت أعماله على إلغاء التفصيلات التي كان يراها على ما يبدو مملة، إلاّ أنه ترك إرثاً رائعاً وفناً للأجيال القادمة رغم رحيله المبكر، له الرحمة.
الحاضر فكراً وإبداعاً
وشاركت شقيقته إيمان بكلمة باسم عائلة الفقيد عبّرت فيها عن محبتها وحزنها لفقدان شقيقها المُحِب، مستحضرة بعض الذكريات معه ومع أفراد العائلة. ثم ألقى عيسى بدران كلمة أصدقاء الفقيد قائلاً: أيها الغائب جسداً والحاضر فكراً وإبداعاً وأدباً والمتربع تاجاً في دفتر الذكريات، ضجيجك الصامت لغز، أعجزُ عن تفسيره، وكلماتك الهامسة الناصحة المختصرة ستبقى نوراً في طريق كل تائهٍ أعيته الحيلة.. وأشار بكلمته إلى الفنان الحالم الباحث عن منصة يفرض فيها إمكانياته، وقد نحت أعمالاً خالدة إضافة لمنحوتاته الإبداعية، وهي الذكريات التي ستظل ماكثة في قلوبنا.
كما ألقى عبد الله النقري كلمة اتحاد الفنانين التشكيليين المركزي والفرعي، نيابة عن الزميل الفنان أميل فرحة بسبب وضعه الصحي، فأشار إلى أن ما أبدعه الراحل فن معبرٌ عن مواقفه الوطنية نحو العزة والكرامة للإنسان السوري والعربي عموماً، مستخدماً الرخام القاسي الذي يعبر عن المواقف التي تعطي الروح للمادة الصمّاء بزرع الحياة والموقف الرجولي.
وأشار إلى أن الفقيد حاز جوائز عدة لاشتراكه في عدة معارض، ولاقت أعماله الإعجاب من الكثير من الفنانين.
واختتم حفل التأبين بكلمة لابن الفقيد رأفت، عبّر فيها عن حيرته بأي الكلمات يرثي والده، إذ يشعر بأن الزمن قد توقف، وقال أيضاً: “مازالت أشعر بدفء يديك، وحلمي كان أن تراني وأنا أكبر، وقد خسرت برحيلك صديقاً وأخاً وأباً، علمتني الكثير لكنك لم تعلمني كيف أتدبر أمري بعد رحيلك، الرحمة لروحك والسلام”.