فازت بجائزة «البوكر» للرواية العربية.. قراءةٌ في «الديوان الإسبرطي» للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيسوي
تشرين- زينب عز الدين الخيّر:
تدور أحداث رواية (الديوان الإسبرطي) للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيسوي في فضاء السنوات الثلاث الأولى من احتلال الفرنسيين للجزائر، أي من العام /1830/ إلى /1833/ في تلك الفترة أرعبت قوة الأتراك البحرية أوروبا ودفعتها لدفع الجزية عن سفنها البحرية، لكن واقع الشعب الجزائري كان مأسوياً على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فلم يستطع هذا الشعب الدفاع عن وطنه حين جاءه الاستعمار الفرنسي غازياً.
سخر الكاتب مرحلة تاريخية مفصلية لمصلحة التخييل، فكانت روايته جميلة، جاذبة، متكاملة الأركان الفنية والموضوعية، متماسكة، لغتها بسيطة، سهلة مطعمة ببعض المفردات من اللهجة الجزائرية، وبعض المصطلحات العثمانية.
وكشف الكاتب عن السياسة التي اعتمدها الأتراك والفرنسيون في استعمارهم للجزائر، مبيناً عمق المأساة التي عاشتها الجزائر آنذاك، فالاستعمار استعمار، سواء كان عثمانياً، أو فرنسياً، أو غير ذلك.
اختار عبد الوهاب العيسوي عنوان روايته أيضاً من سجلات التاريخ، إذ إن إسبرطة هي دولة مدينة في اليونان القديمة: «الإسبرطيون كانوا أشبه بالعثمانيين في إفريقيا، أمة لا تقوم إلا على قوة السلاح، والأتراك فقط من يمتلك كل شيء، أما العرب فلم يكونوا إلا عمالاً في مزارعهم… ولكن الحقيقة التي اتفق الجميع حولها، أن تلك المدينة البائدة لم تكن إلا ثكنة كبيرة».. لقد أحيا الفرنسيون المدينة البائدة وحولوا الجزائر إلى ثكنة عسكرية كبيرة، عاثوا فيها خراباً وتدميراً وقتلاً أكثر من قرن وثلاثين سنة. يكشف الكاتب خيانات الأتراك وتسليمهم المحروسة مقابل الحفاظ على أرواحهم، ودور اليهود في احتلال الجزائر، مثلما يكشف الفظاعات التي مارسها الفرنسيون منذ اللحظات الأولى لاحتلالهم الجزائر؛ من انتهاكات للبيوت، إلى هدم للمساجد أو تحويلها لثكنات عسكرية، أو هدم البيوت لتوسيع الشوارع، إلى القتل والخراب والدمار في كل مكان، وصولاً إلى سرقة عظام الأموات من الجزائريين ونقلها بالسفن إلى فرنسا لاستخدامها في تبييض السكر.
استخدم الكاتب بحرفية عالية تقنية تعدد الأصوات السردية، فوزع السرد بينها بشكل متعادل في خمسة فصول، في تناسق يليق بالمهندسين، تتناوب على سرد كل فصل خمسة أصوات سردية، هي أصوات أبطال الرواية الخمسة:
ديبون: الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر كمراسل صحفي، ثم رحل عنها وعاد مرة أخرى إليها بسبب حادثة العظام، وهو صوت الفرنسيين المسيحيين المعتدلين، والكاتب يحيل إلى شخصية تاريخية حقيقية كما يُرجح.
وكافيار: وهو صوت العسكريين الفرنسيين الغاصبين؛ و أحد قادة عملية احتلال الجزائر، والكاتب أيضا يُحيل إلى شخصية حقيقية من مهندسي خطة الاحتلال. كافيار الذي كان جندياً في جيش نابليون، بعد هزيمة واترلو دخل الجزائر أسيراً، وعاد إليها من جديد حاقداً لكي يضع القيود في أرجل الأتراك والمُور.
وثالثاً ابن ميار: رجل من الأعيان، وهو كاتب الديوان الذي يدوِّن فيه شكاوى المواطنين، ويرفعها إلى المسؤولين في عهد العثمانيين وبعدها للمسؤولين الفرنسيين، وعلى الرغم من موالاته للأتراك- فإنه يرى أن الجزائر لن تكون إلا لأهلها، وهو يميل إلى السياسة كوسيلة لبناء العلاقات مع بني عثمان، وحتى مع الفرنسيين.
ثم حمَّة السِّلاوي: شابٌ من الوسط الشعبي، متمرد وثائر يغار على وطنه، ويرفض وجود أي أجنبي فيه، تحت أي ذريعة كانت، وله وجهة نظر في أن الثورة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير لأجل الوصول إلى الحرية، والكاتب هنا لا يحيل إلى شخصية تاريخية بعينها، إنما إلى أصوات الجزائر العميقة التي لا يحفل بها التاريخ عادةً.
وخامساً دوجة: الشخصية النسوية الرئيسة في الرواية، الفتاة الجميلة التي تعاني الأمرّين بسبب فقد عائلتها.. ليس لها دور فعال في أحداث الرواية لكنها الشاهد على كل الدمار والألم والعبث الذي حل بالمحروسة.. مرغمةً تقبلت دوجة كل ما حدث لها، بدءاً من رحيلها عن الريف بسبب الوباء، وفرارها من مزرعة القنصل بعدما قتل «كافيار» الفرنسي والدها، وموت أخيها الذي لم يجد العلاج، لغاية إرغامها على العيش في مبغى، أحبت دوجة السِّلاوي، ورفضت الرحيل انتظاراً لعودته بعد التحاقه بجيش الأمير.. إنها المرأة الجزائرية المغتصبة التي ترمز للأرض المغتصبة، وليست شخصية تاريخية بعينها.. يُشار أخيراً إلى أن رواية (ديوان الإسبرطي) فازت بجائزة «البوكر» العالمية للرواية العربية سنة ٢٠٢٢.
اقتباساتٌ من الرواية:
-ديبون: «وكلما اِلْتَفَتُّ إلى جهة أفْزَعُ من منظر الأجساد المنثورة من حولي، هل هذا هو النور الذي أتينا به لهذه الأمة؟ كيف يمكننا الآن بأن نُعرف الحرية؟ أو البربرية يا كافيّار؟»
-كافيار:« لم تكتب العهود بين الأمم إلا لتمزقها القوية منها».
-ابن ميار: «الله حاضرٌ معنا حتى في زخرفتنا، كأننا نستغفره على تلك الأخطاء التي نبيح لأنفسنا اقترافها، فنحتفي باسمه على الدوام..»
-حمَّة السِّلاوي: «كل يوم تظهر متناقضات جديدة في المحروسة، تقبع الشريفات في بيوتهن، وتخرج البغايا للموت، ويفرُّ الموسرون عند أول طلقة مدفع، وينحدر الفقراء في إثري.”
-دوجة: «لم يكن الرحيل عن المحروسة بالنسبة لمحبيها إلا وجهاً آخر للموت…».