جنى طحطح تُدوّن تراتيلَ لأيلول

ببعضٍ ما يُشبه الشعر، وببعضٍ ما يُشبه القصة القصيرة، وبسردٍ طويل يُشبه السرد الروائي، كانت «خلطة» الكاتبة جنى طحطح في مجموعتها «تراتيل أيلول»، الصادرة عن دار سين هذه السنة.
أقول بما يُشبه، فلا يُمكن تصنيف تلك النصوص بين دفتي المجموعة تحت أي نوعٍ حاولت مقاربته، فليست قصائد رغم محاولاتها الوصفية العالية في بعض النصوص، ولا هي قصص قصيرة مع ضياع الحكاية، رغم محاولات الكاتبة اختلاق بعض الأحداث، ولا هي أيضاً رواية مُحددة بشخصياتها، رغم وجود «السارد»، أو ما يُشبه الراوي الذي يدوّن على مدى الصفحات..
من هنا، فإنّ «تراتيل أيلول» وكان من المُستحسن أن الكاتبة لم تُجنّس ما سطرتّه تحت أي نوعٍ إبداعي مما سبق، وإنما عنونت كل ذلك بـ«نصوص»، وكما ذكرت حسناً فعلت، ذلك لأنه من الإشكالية بمكانٍ تجنيس نصوص كهذه ضمن نوعٍ إبداعي واضح المعالم.. وكم تمنيت لو عنونت المجموعة بـ«دفتر مذكرات»، وذلك لغير سبب، منها أولاً: الحالة الذاتية المُفرطة التي تُفعم بها النصوص.. وثانياً: لأن «دفتر مذكرات»، المفردة التي كانت «البؤرة» التي حملت كامل حيثيات النصوص الأولى وتفاصيل السرد في المجموعة.
رسالة إلى أحلامي
وهكذا بين الحواف من كلِّ ما تقدم، يمكن عدّ جنى طحطح قدمت «تراتيل» أيلولها في مناخات الخواطر الذاتية.. لكن لو أخذنا نص المجموعة الأول «بين الحياة والموت»، وهو عنوان تقليدي في كل الأحوال، فالملاحظة الأولى التي سنراها تتكرر في نصوص المجموعة كلّها من دون استثناء، حيث تبدو الكاتبة أنها تسرعت بعض الشيء في إرسال كتابها للطباعة من دون تدقيق، فقد حفلت النصوص بالأخطاء الإملائية والنحوية وحتى المطبعية، وهو الأمر الذي شكّل الكثير من الركاكة في الصياغة، وأظن أن أمر التّسرّع عائدٌ، أو ربما كانت خلفه حماسة الشباب، وفقدان الصبر للتدقيق والتصحيح لشابة تريد أن ترى كتابها نابضاً وحياً بين يديها..
كما أنّ ثمة أمراً لافتاً في بعض النصوص التي جاءت منفصلة – متصلة، بمعنى أنّ الكاتبة، كانت تُحدد بداية ونهاية للنص، يُمكن للمتلقي أن يقف عند الخاتمة لو أرادَ ذلك، غير أنّ فحوى، أو محتوى النص التالي، أو الذي يليه يبدو مُكملاً لما بدأته في النص الأول أو السابق، وهكذا يُمكن قراءة النصوص إما فرادى كل نصٍّ بنصه، أو قراءتها كيوميات متتابعة ومُتكاملة، أو ربما كمتوالية سردية، كلُّ نصٍّ متممٌ بما يليه حتى النص «تراتيل أيلول» آخر النصوص الذي منحت عنوانه اسماً لكامل المجموعة.. نصوص يغلب عليها الكثير من حالة التداعيات، وتخلو من الأحداث، وإنما هي نجوى طويلة مستسلمةً لحديث النفس إلى النفس.
مذكرات حالمة
إذاً.. النصوص تُسرد بقلم ساردة تجاوزت سن الطفولة حديثاً، أو ربما منذ فترة قريبة، فيحضر اسم «مارلين» التي تختلف عن قريناتها بالكثير: أسرة مُفككة، أبٌ سكيّر يعيش عدم المبالاة والفوضى، وأم تُنهك جسدها لتُكبّر ابنتها مثل شبيهاتها في العمر.. ولأن المجتمع لا يرحم بتقاليده وحمولاته البالية، ستقعُ «مارلين» في الكثير من المحن، غير أنها كثيراً ما تجدُ لنفسها الدواء من كل تلك المحن والضنك وقلة الحيلة بما يُشبه «ملاذ»، والذي كان في تدوين مذكراتها، حيث يبدو ذلك «الدفتر» سر نجاحها، والذي تضعُ بين دفتيه حياةً بكاملها وبمختلف المشاعر، بل وتعوّل عليه يوماً ما لتصل أعلى درجات سلم المجد، أن تصير كاتبة مفعمة بالحب والإنسانية..
(5\4\2021)
هذه الـ«مارلين»، التي تتحدث الكاتبة حيناً بلسانها بضمير الحاضر، وحيناً كغائبة، وبضمير الغائب، حتى كان ثمة تماهٍ بين بتاريخ يوم مضى، ربما شكّل لها منعطفاً في حياتها، وهو (5\4\2021)، والذي بدا أقرب إلى حالة شعرية وصفية طويلة، الساردة والشخصية.. وهنا سأختم ببعض الوصف العالي الذي كان سمة جمالية في النصوص، ولاسيما في مقدمة النص الذي عنونته وقد انتفت منه الأحداث.. تقول: «إنها الليلة الأخيرة من ليالي كانون الأول الكئيبة.. لقد مرَّ على ذكراك عام كامل، وليلة سوداء دامسة، ولم يبقَ من الساعة غير عقاربها.. لقد تعبت، وهي تنتظرك كلَّ ليلةٍ عند حافة النافذة، وهي ترقبُ تلويحاتك لها من بعيد، ووجهكَ مرسومٌ بين طيّات ذاكرتها، وملوّن برؤية عينيها.. كنت في كلِّ مكان..»

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار