أحمد علي محمد.. ينثرُ قصار قصصه رؤىً على بواباتِ الوجيز

تشرين- راوية زاهر:

حتى في العنوان يختصر الدكتور أحمد علي محمد اسم مجموعته القصصية الصّادرة عن الهيئة العامة للكتاب ٢٠٢٢م. بكلمة واحدة (رؤى).. عنوان لمجموعة تنوعت نصوصها بين القصيرة والقصيرة جداً، وقد تجاوزت المئة والعشرين نصاً، يدور جلّها حول التفاصيل الحياتية والاجتماعية بأسلوب رشيق ولطيف.
العنوان (رؤى)؛ هل هي الأفكار؟ أم الأحلام المتشعبة عن الرؤيا، هل هي أحلام نوم؟ أم أحلام يقظة؟.. تساؤلات كثيرة تعترض القارئ عن سبب إطلاق عنوان كهذا على مجموعة قصص تحمل بين جنبات نصوصها مئات الأحداث والشخصيات والحوارات والأمكنة، فللعنوان كما هو متعارف وظيفة تأويلية تحملنا إلى الأحداث، وماهو إلا العتبة النصية الأولى التي تصادف القارئ وعليه تجاوزها ولو بجزء يسير من الوعي والإدراك، إذ يعدّ العنوان نقطة الجذب الأولى، وهنا تبرز حكمة الكاتب ووعيه في الاختيار.
مالت القصص في معظمها إلى الإيجاز الواضح في قصر حجمها، إذ كمنت أهمية الإيجاز في إرواء ظمأ القارئ وعطشه في آن، من خلال قوله لشيءٍ وتركه أشياء أخرى قيد التلميح والترميز.
الكتاب كما أسلفنا تنوعت قصصه، وقد انحاز أغلبها إلى نوع وجيزي، قد أطلق عليه المختصون تسمية القصة القصيرة جداً، وسنتقصى ملامحها من خلال اختيار نص وجيزي واحد وإخضاعه لفحص يحدد هويته من حيث القصصية والجرأة والتكثيف والحجم القصير جداً، والرمزية والتلميح وحسن اختيار الأوصاف.. وقد وقع الاختيار على نص (أبله)
النص:
(وقف يتأمل بائع شراب الليمون، وهو يصفُّ الأكواب النظيفة الفارغة على منضدة وضعها أمامه، فتقدّم ليمسك بكوبٍ مقلوب، ثمّ قال للبائع: عجيب أأكوابك بلاأفواه؟، فقال له البائع: اقلبها رأساً على عقب، فلما قلب أحدها زاد عجبه ثمّ قال: وليس لها أسافل أيضاً؟؟.)
نص يبدأ لغوياً بصفة مشبهة على وزن (أفعل)، وهذه الصفه تشي وتفصح عن الكثير من التأويلات التي قد يحملها النص.. فالأبله: لغوياً هو شخص مصاب بعقله يميل إلى الغباء والبلادة.. والسؤال هنا؛ ماالذي دفع الكاتب لإطلاق عنوان أبله على النص، وهل سنؤيده في نهاية النص وسيكون الانطباع فعلاً يحمل التقييم نفسه..؟ أسئلة برسم النص، بعد التشريح. فقد سارت أحداثه على إيقاعٍ سريع، كما استندت إلى نهاية مباغتة جعلت المتلقي يتلقى الفكرة بقوة، فالنص من حيث الشكل قصير الحجم، وفيه نزعة قصصية واضحة الأسس والمعالم، قامت على لعبة بين القارئ والمتلقي، فدائماً في عالم الوجيز نلاحظ عملية بحث عن القارئ من خلال لغة الإيجاز واستخدام لغة البلاغة بسحر وتشويق.
نقف بعد العنوان على المفارقة: إذ جرت الأحداث بشكلٍ عفوي، على حساب أشياء أخرى هي المقصودة، وهي ثنائية درامية يلجأ إليها الكاتب لإظهار عكس مايعنيه.. فهل أراد الكاتب أن يوصف لنا حال الناس حقيقة أنهم فقط عليهم ألا يعملوا أفكارهم، وعليهم فقط أن يعتمدوا على حاسة الرؤية، فيرون الأشياء بلون واحد وشكل واحد وعلى سجية واحدة،؟؟
وتبقى الأسئلة مفتوحةً هنا…
المفارقة: هي حالة وعي في ذات الكاتب الذي يملك قوة الرؤية ورهافة الحس، ودقة الملاحظة، ولم يوغل في السرد والتفصيل، فقط طلب من الرجل قلب الكوب؛ لتحدث المفاجأة، في محاولة صارمة للتمهيد للخاتمة التي ستحسم الجدل على بساطته، في محاولة لمقاطعة ماتختزنه الذاكرة عند المتلقي مع مايمهد له القارئ لتكون النهاية صادمة.
بينما الخاتمة: هي الغاية والهدف وهي أهم عناصر القص الوجيزي لـ (ق. ق. ج) إذ نجد أنفسنا مع هذه الخاتمة كمن يقفز من داخل النص إلى خارجه.. هل البلاهة كانت مقصودة؟ هل عاد الأبله لينقل رسالة عكسية؟ من قبيل الحليبُ أسود.، والاستسلام لما يرى فقط من دون إعمال الفكر؟ أم هو نص فكاهيّ بامتياز أراد الكاتب أن يثبت مقدمته، وهي العنونة بكلمة أبله من خلال الوصول إلى خاتمة تثبت صحة المقدمة؟
أما الحدث فبدا مكثفاً وعميقاً، وترك للقارئ أن يستكمل الفجوات، والمباغتة تحققت في الخاتمة سواء بتأويلها السطحي أو العميق.
جاءت اللغة: بسيطة، خالية من الحشو والاستطراد والسرد، واستخدم الكاتب الجملة الفعلية في محاولة لإبراز الحركة.. ففيها الماضي: «وقف، وضعها، تقدّم، قال، قلب، زاد..» وذلك من أجل الثبات والرسوخ في المعنى المراد.. وفيها المضارع أيضاً: « يتأمّلُ يصفُ..» لاستمرار الحدث وديمومته أطول فترة ممكنة ريثما يتمّ التحقق من وصمة البلاهة التي لصقت بالرجل من خلال العنوان.. كذلك نوّع الكاتب في أسلوبه من حيث الخبر والإنشاء.. الخبر «وقف يتأمل بائع شراب الليمون،».. كلام قابل للتشكيك صدقاً أوكذباً، وهو أسلوب يفتح أفقاً واسعاً للوصف والتخييل.. أما الإنشاء فقد برز جلياً من خلال أسلوبي الاستفهام والأمر، وتأتي أهميته في أنه يوحي بالانفعالات والاضطراب النفسي والقلق ومن أمثلتها: «أأكوابك بلاأفواه؟ » إنشاء استفهام.

(اقلبها رأساً على عقب) إنشاء نوعه أمر، والقصة من مفهومها الاجتماعي حددت طبقية الشخصيتين، تعانقت في هذا النص الفكرة واللفظ، وانصهرا في بوتقة أدبية، فالنص عمل أدبي حكائي مميز منسوج بإتقان، حقق أهدافه على أكثر من منحى من خلال رسائل مفتوحه لمن يودّ القراءة، غامض لمن أراد التعمق، مضحك وحقق المتعة والفائدة لما أراد ظاهره.. والنص وجلّ نصوص الكتاب تعتمد على الأدب الوجيز تكثيفاً وعمقاً وحكائية وفي طرافة اللقطة واختيار العناوين التي تحفظ للخواتيم دهشتها وصدمتها، والذهاب لاكتشاف طاقة المفردة بعمق معناها وإيحاء دلالتها، ومخيلة فذة تقودنا إلى الإبداع.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار