من سويسرا ومؤتمرها الأوكراني إلى بيونغ يانغ وهانوي.. روسيا تعزز تموضعها آسيوياً لبناء مسارات أمن وتجارة لا يسيطر عليها الغرب

تشرين– د. رحيم هادي الشمخي

لوقت طويل، ستبقى مسألة العودة إلى «مؤتمر السلام في أوكرانيا» الذي انعقد منتصف هذا الشهر في سويسرا.. ستبقى مسألة مفيدة، ليس لأن المؤتمر جاء بالحد الأدنى، ما جعله فاشلاً إذا ما أخذنا بالاعتبار النتائج التي خرج بها البيان الختامي. وفوق أنه كان بياناً «مُخففاً» بصورة مخزية ومخيبة جداً لنظام كييف الذي يقوده فلوديمير زيلينسكي، فإن 12 دولة رفضت التوقيع عليه.
مع ذلك فإن المؤتمر لم يكن محطة فارقة بسبب فشله فقط ، وهو فشل كان متوقعاً، بل في كونه جاء صورة واضحة عما بدا عليه الموقف العالمي، أو ما يمكن تسميته الحشد العالمي الذي سعى الغرب لتحقيقه في مؤتمر سويسرا، سواء ما يخص الحرب أو ما بعد الحرب (يمكن هنا استعارة التعبير ذاته فيما يخص جبهة غزة أي -اليوم التالي- ما بعد الحرب) وطبعاً لم يخرج المؤتمر بأي أفكار أو مقترحات واقعية حول كيفية إنهاء الحرب أو ما سيكون عليها اليوم التالي بعدها.. والأهم أنه فشل في تحميل روسيا مسؤوليتها.
عكس مؤتمر أوكرانيا في سويسرا أوضح صورة حول الانقسام العالمي، وصولاً إلى إظهاره عجز أميركا وناتو عن تشكيل حالة استقطاب عالمي مع نظام زيلينسكي ضد روسيا، وهذا ما يجعل روسيا في صورة الرابح من المؤتمر، لناحية من شارك ومن لم يشارك، ثم لناحية من وقع ومن لم يوقع على البيان الختامي.. بل إن المؤتمر أظهر «أطرافاً» جدداً يمكن استقطابهم باتجاه روسيا (والصين) في إطار العالم متعدد الأقطاب الذي يتشكل. لقد بدا مؤتمر سويسرا أبعد ما يمكن عن أوكرانيا وعما يريده نظام زيلينسكي لدرجة أنه بالإمكان تجاهل مسألة الأهداف والغايات التي عقد من أجلها باتجاه قراءة مختلفة لروسيا وتموضعها عالمياً.
من هنا، سيبقى من المفيد العودة إلى هذا المؤتمر في المحطات اللاحقة، خصوصاً وأن هناك تحضيرات لمؤتمر آخر حول أوكرانيا قد تستضيفه السعودية في المرحلة المقبلة.
على أرضية «الاتجاه المفيد لروسيا» الذي خرج به مؤتمر سويسرا، انطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جولة آسيوية، شملت كوريا الديمقراطية ثم فيتنام (اختتمت الخميس). وعملياً فإن الغرب يربط كل تحرك روسي بأوكرانيا، وبسعي موسكو لاستقطاب مزيد من الحلفاء والتسليح، متجاهلاً مسألة أن الزيارتين أهم من ذلك بكثير وأبعد أهدافاً، هذا عدا عن الأهمية الكبيرة لكل من كوريا الديمقراطية وفيتنام في سوق الموارد/ المعادن النادرة الموجودة في أراضيهما والتي لا غنى عنها في الصناعات التكنولوجية الفائقة.
لكن الغرب لا يستطيع أن يستمر طويلاً في إظهار التجاهل. صحيح أن أميركا تتحدث عن غضبها وانزعاجها من الزيارتين، لكنها في الوقت ذاته أكثر من يدرك ما تنطويان عليه من خطورة في المستقبل القريب. لقد فشلت كل رهاناتها بخصوص تكبيل روسيا عن توسيع فضاءات تحالفاتها، عبر جعلها حبيسة حرب العقوبات التي فرضتها عليها على خلفية حرب أوكرانيا.
فعلياً هناك علاقة تزدهر باضطراد بين ورسيا وكوريا الديمقراطية، وتتعلق بما هو أكثر من مسألة أوكرانيا والتسليح. بوتين بالتزامن مع زيارة بيونغ يانغ كتب مقالاً نشرته وسائل الإعلام في كوريا الديمقراطية يقول فيه: «سنعمل على تطوير آليات بديلة للتجارة لا يسيطر عليها الغرب، وسنقاوم بشكل مشترك العقوبات الأحادية غير المشروعة.. وسنبني بنية للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوراسيا رغم الضغوط الأمركية والابتزاز والتهديدات العسكرية».
لم يكن لواشنطن أن تشيح بنظرها ولو للحظة عن مجريات زيارة بوتين لكل من كوريا الديمقراطية وفيتنام، أو عن الرسائل التي تقصّد الرئيس بوتين توجيهيها من بيونغ يانغ ثم من هانوي، خصوصاً ما يتعلق بأوكرانيا، ومسألة اتجاه روسيا لتسليح خصوم أميركا تماماً كما تفعل هذه الأخيرة في تسليح خصوم روسيا.. وفي هذه النقطة فإن قائمة الدول من خصوم أميركا تطول جداً، ومن شأن وضع هذا المعادلة في التنفيذ تكريس مسار هزائم متتالية لأميركا.
إحدى الصحف الأوروبية علقت على زيارة بوتين لكوريا الديمقراطية بالقول: «لطالما اعتبر الغرب أن أحد السيناريوهات الأكثر إثارة للقلق لتطور الأحداث في السياسة العالمية هو التحالف الوثيق بين موسكو وبيونغ يانع، وكانت نقطة التحول هي العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا. هناك كل علامات الصداقة التي تنمو كل يوم، ازداد زخمها أكثر فأكثر، وهو ما يجعل من الصعب الآن النوم بأمان ليس فقط في كييف، ولكن أيضاً في واشنطن».
وعلقت أخرى بالقول: زيارة بوتين لكوريا الديمقراطية هي «الحدث الجيوسياسي الأكثر أهمية لهذا العام، على الأقل من وجهة نظر الدولة المضيفة، لقد التقى الزعيم الكوري كيم جونغ أون الرئيس بوتين باعتباره قيصراً وصديقاً حميمياً وشريكاً تجارياً».

وإذا كانت زيارة كوريا الديمقراطية مقررة مسبقاً، فإن زيارة فيتنام لم تكن كذلك. بوتين لم يكتفِ بالزيارة الأولى بل تعداها إلى فيتنام التي تحاول واشنطن جاهدة استقطابها بعيداً عن روسيا (والصين) وسبق للرئيس الأميركي جو بايدن أن زار فيتنام في أيلول الماضي (وفي كانون الأول الماضي زارها الرئيس الصيني شي جين بينغ).
ولفيتنام أهمية خاصة لأميركا، ليس فقط فيما يتعلق بروسيا، بل ما يتعلق بالصين أيضاً حيث إن أميركا تسعى لجعل فيتنام جزءاً من تحالف آسيوي (في منطقة المحيطين الهادئ والهندي) لمحاصرة الصين عسكرياً واقتصادياً، ولكن حتى الآن لم تنجح في ذلك، إذ إن فيتنام ما تزال تزن خياراتها، كما يبدو، وهي في الوقت نفسه غير غافلة عن خياراتها المفيدة مع كل من روسيا والصين في عالم متعدد الأقطاب المقبل.
لذلك يُقال إن زيارة بوتين لفيتنام مهمة جداً لناحية أنها تشكل «اختباراً لمعرفة إلى أي حد يمكن لدبلوماسية هانوي متعددة الاتجاهات، أن تذهب». وكان بوتين شكر لهانوي «نهجها المتوازن» بشأن أوكرانيا في مقال نشر في صحيفة الحزب الشيوعي الحاكم. وكتب بوتين: لروسيا وفيتنام القراءة نفسها للوضع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
في زيارته لفيتنام، وقع بوتين ما لا يقل عن /11/ اتفاقية وفق وسائل الإعلام الروسية، وتبنى بوتين ونظيره الفيتنامي، تو لام، بيان «مواصلة تعميق الشراكة الإستراتيجية الشاملة في سياق ذكرى مرور 30 عاماً على تحقيق الاتفاقية الروسية- الفيتنامية حول أسس علاقات الصداقة».
وكذلك تم الاتفاق على تعميق العلاقات في مجال الطاقة، إذ حصلت شركة «زاروبيج نفط» الروسية على ترخيص استثمار بالجرف القاري الفيتنامي، فيما وقعت شركة الغاز الروسية «نوفاتيك» على مذكرة التعاون مع مجموعة فيتنام للنفط والغاز «بتروفيتنام». ووقع الصندوق الروسي للاستثمار المباشر على اتفاقية مع صندوق BVIM الفيتنامي للاستثمار.
ومن بين الوثائق الموقعة، اتفاقيات تعاون في مجال التعليم العالي وإنشاء مركز العلوم والتكنولوجيا النووية في فيتنام بدعم من مؤسسة «روس آتوم» الروسية، ومذكرة التعاون في تطوير البنية التحتية لمختبرات مكافحة الأوبئة.
كاتب وأكاديمي عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار