“كواكب الجنة المفقودة” ورحلة الانتقال إلى عالم الغيب

بارعة جمعة:

هي رائحة حنيني الأول منذ الطفولة الطازجة المرصَّعة بالمتاهة والأمانيِّ البعيدة، حيث كانت الأسئلة غماماً يتوعد بالمطر، كانت أشبه بقصَّة حبٍّ أو سيرةٍ ذاتية، يرويها بطلٌ بين عالم الحقيقة والخيال، ويراها البعض تطوُّراً في حالة الإنسان البدائي وانتقاله لحياة المدن، أو ذاكرة ميتٍ تراوده الشكوك حول حقيقة ما يعيشه ضمن شريط ذكرياتٍ لمراحل حياته.. هذه الأحداث وغيرها من التشعُّبات والخطوط الدراميَّة كانت موضوع حوار ونقاش كلٍّ من الدكتورة “آداب عبد الهادي” والأديب “مجد إبراهيم” ضمن قاعة اتحاد الكتاب العرب، متناولين إضاءاتٍ أدبيَّةً منوعةً عن رواية “كواكب الجنة المفقودة” للأديب “محمد الحفري”.

 

قراءة عميقة

لحظاتٌ يعيشها الإنسان إثر مفارقته للحياة، تلمُّ شتاته المتفرق هنا وهناك بين أنين الماضي وبراءة الطفولة ومعارك الحياة الصاخبة، لا يمكنه الهروب منها إلّا إليها، كما هو الحال لدى ذاكرة البطل “محمود”، المفعم بحب “كوكب” ابنة القرية الواقعة في أقصى المجهول، حيث لا مكان للاستجداء سوى بالدعاء لنيل المطلوب من مساعي الحياة اليومية، إلّا أن “مرعي الجواد” ابن عم “كوكب” لم يكن غافلاً عما يحدث حوله، مشكِّلاً مصدر قلقٍ ورعبٍ لـ “محمود” وحبيبته، فهو صاحب سلطةٍ ومالٍ، جعلت منه اليد الطُولى في القرية، وصاحب الشَّأن والكلمة بها، ليتعدَّى الأمر كل ذلك بعد تجارب “محمود” معه، ووصوله لدرجة القناعة في قدرته على الأذيَّة وبكل سهولة.

لم تستطع هذه المشاهد مغادرة ذاكرة “محمود” رغم مفارقته الحياة وخضوعه لحالة الاستحضار المترافق مع تداعياتٍ لصور ذكريات الطفولة والشباب والكهولة، وسط مزيجٍ من المواقف المضحكة والمبكية بآن معاً، ومشاعر مبعثرة كانت أقرب للهلوسة والبكاء الشديد على ما جرى .. مواقفٌ لم تكن من نسج الخيال إنما مستوحاةً من مشاهد حقيقية عاشها الأديب “محمد الحفري” بعد تعرضه لإصابات متكررةٍ، أخذت به لاحتمالات الموت المترافقة مع أحداث متنوعة.

حرفية الأسلوب

تختلف الرواية من حيث القراءة لاعتمادها على الارتداد وربط الأحداث عكس ترتيبها الطبيعي، وافتقادها للمقدمة التي تُعدُّ من ركائز العمل الأدبي شعراً و نصاً أو قصيدةً، ما أدى لتشويش القارئ والناقد بآن معاً كما يراودك في بادئ الأمر أنها قصة حب بدأت منذ الطفولة تحتمل أحداثاً عاشها البطل وأثرت على مستقبله، إلّا أنه للوصول لحالة الفهم العام للقصة، عليك الغوص في ذاكرة ميِّت، ترافقت مع صرخات ألم مدوِّيَة شملت أنحاء روحه التي بدت وكأنها تفارقه أو تنساه لتتجول في أنحاء الكون الواسعة.

ولمثل هذه المقاربة دورها في تجسيد مرحلة فصل الروح عن جسد الإنسان إثر مغادرته أحبابه والعيش بعالمه الخاص.. وأمام هذه التجليات الروحية والفلسفية، تُطالعنا اليوم مهارة الكاتب “محمد الحفري” الذي استطاع بإبداعه الاحتفاظ بالقارئ من الهبوط في التنقل بين هذه الصور والمراحل، وبناء الحدث من النهاية حتى البداية، حتى تكاد لا تدرك شيئاً منه دون البدء بصفحاته الأخيرة، ما يؤكد مهارته من حيث أسلوب اللغة والتلاعب بها بطريقة معقَّدة لا يُتقنها إلّا الكاتب المتمكِّن من أدواته، الذي استطاع الاحتفاظ بالقارئ ومخاطبته بكل مستوياته بطرق “الخطف خلفاً” و “التداعي” و “الفلاش باك”، التي تُعد متعةً كبيرة للقارئ المتميز.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار