“ربيع المآتم”.. نزيه أبوعفش.. والقبور التي تفترشُ عشب القصيدة

يأتي كتاب (ربيع المآتم)؛ الصادر عن دار دلمون الجديدة بدمشق، ك”يوميات” تراجيدية بعد إنجازات كثيرة للشاعر والفنان التشكيلي نزيه أبو عفش، والتي لاتخرج عناوينها عن بعدها المأساوي والموت المتربص.. كتب من مثل:” كتاب أهل التابوت، بين هلاكين، هكذا أتيت وهكذا أمضي، قريب من الله، ذاكرة العناصر تصديق الهذيان، الراعي الهمجي، الله يبكي، ما يشبه كلاماً أخيراً…” وربما ليس آخرها الكتاب الذي بين أيدينا..

(ربيع المآتم) العنوان الذي يُمثّل هنا العتبة النصية الأولى للكتاب وما على القارئ، إلا تخطيها كوظيفةٍ تأويلية تحملنا إلى عمق نصوص هذا النتاج الأدبي.. هذا العنوان الذي يحمل بعدين متناقضين (ربيع ومآتم)، وهو الأمر الذي يشي بفواجع أدبية وشعورية تنتظرها في متن مقصوراته سواء الشعرية منها أم النثرية، مادامت (الحياة هي الشاغل الوحيد للموتى..) هذه العبارة التي دونها الشاعرُ على الصفحة الأولى، والتي هي بمنزلة إهداء بتوقيع مبدعٍ امتهن الشعر كأنه لخدمة الموت، وليُذكر قراءه بأنهم الموتى الافتراضيون، وهم ذاتهم الساعون إلى الحياة، وإليهم تُهدى الكتب، لينعموا بترتيلها في رحابة قبورهم من خلال (يوميات) كان القبرُ هو المكان الذي تدور فيه جلّ الأحداث على مرمى قدرٍ مُحتّمٍ منه، بين أحضانه يستلقي المرءُ مبشراً بخلاصه، وفيه ينعمُ بحسن الضيافة على خلاف الحياة التي قضى فيها جلَّ حياته شقيّاً، مارقاً عارياً، ذليلاً، صاغراً، نادماً، وحيداً، وخائفاً.
“القبر؛ هو بيت الضيافة الأحن
الذي لا يُسألُ فيه الإنسان
من أية ديارٍ أتيت،
وإلام تطول إقامتك؟..”
شاعرٌ عُرف بتمرده على الحياة، بحدسٍ تراجيدي ذي وقعٍ انفعالي مُدهش، وفي شعره فائضُ الذعر والتشاؤم والسوداوية، وبحقلٍ لغوي معجمي، ينضحُ بالجنائزية ورائحة الموت المتنقل كلازمةٍ شعرية.. هنا تستوقفك اللغة بفجائعيتها إذ تبدو الأكثر حضوراً كحدسٍ عقليٍّ بحت مُعتمداً التعبير على المشهدية في ذروة جنائزيتها، والاستشعارُ الرهيب بالموت دون جدوى مواجهة الفعل لا موضوعياً ولا ذاتياً.. (الموت، المقابر، المآتم، الجثامين، الحزانى، رائحة الحزن، محفل عزائي، توابيت، ثكالى،الليل، مذبوحين، مفقودين، محتضرين..) هنا الحقل المعجمي اللفظي وماتحمله من تراجيديا، وشعرية الخوف المتنقل من نص إلى آخر، ومن معنى إلى معنى حيث تستوقفك لفظة الليل المكررة؛ إذ تفنن أبوعفش في توصيف الليل ووقعه على كل المخلوقات، فكان المعادل الموضوعي لسواد وحشته.. كان الجليلُ، والأعمى والغامض، والبهي، والحنون.. كان في لحظة تجلّيه لحظة الحنين والأسى، الوحشة وعطر النبيذ والموسيقا، لينتهي بأن يكون فؤاده، ومسقط دمعته وجدار قلعته وقبره.. فيدخلنا في متاهات الطباق وقدرته الهائلة على تعرية الهواجس، وفرض لغة التنافر بين عناصر الصورة، مولداً بهذه التقنية البلاغية دنامية للصورة، وحيوية تجسد التعارض بين القوة البشرية والواقع مركزاً على العناصر الشعورية والنفسية ليظهر نقائض الذات في جدلها ويُعبّر عن توتره النفسي الحاد، وقد ربطَ الكاتب الليلَ لغوياً ومعجمياً وشعورياً بالموت. كما ربطه بوحدته أيضاً.. إذ برزت وحدة الشاعر بذكره للفظة أنا المكررة، فكانت نفسه النديم والضيف المفترضين.. كما يستوقفنا أيضاً تكراره وتركيزه على لفظة العتبة كمدخلٍ قدري إلى الحياة والقبور والبيوت، والليل، والعالمين العلوي والسفلي، ومايرافقها معنوياً من ألفاظ (أقفال – أبواب) .. تلك العتبة التي عبّرَ عنها في مكان ما، أنها تحرسُ خلفها ذهبه المهدور من عرق أحلامه وقلبه ومدخرات حياته البيضاء.. ومن قبيل الشيء ذاته، رفض الكاتب فكرة قرع الباب، أو التلفظ بكلمة شكراً، كحالة من السمو، ورفض الانصياع..
ومن أكثر ما يسترعي الانتباه في كتب أبي عفش عامة وكتاب (ربيع المآتم) فكّ شيفرة الموت الموّشاة بالحياة كصورةٍ جنائزية مقلوبة، تجعلك ترى الحياة كلها كقبر، والقبر المفترض هو الحياة الأخرى المنعمة بالهدوء وغير المسموح فيها بتلطيخ سكينة الراقدين من أحد.. وفي علاقة الكاتب بالإله إذ ينتقل من عتمة القبر إلى علو الإله ليحدثه بتجرد، متنكراً لما آلت إليه حالة مرقده الأخير، مقارناً بين مذاق دموعه ومذاق نبيذ الآخرة، وليعيد الصرخة في مكانٍ آخر موجهاً أصابع إتهامه في كل ماآلت إليه الأحوال من قتل وسرقة للأحلام..
“من أطفأ الشمعة؟
وأسدل الستار على النهار،
اللوم؛ على حارس الليل.”
فالتأثر الديني حاضر بقوة من خلال معجمه اللغوي المتنوّع، ورغم الحالة الشعورية المرافقة التي ماخرجت عن مسارها الاتهامي تارة، واليأس تارة أخرى، وكأن الكاتب كان ينتظر في كل مرة أن يقول الرب كلمته أمام هول فجيعة الحدث. (الأناجيل، الرب، الله، القديسون، ديكة بطرس، ماقبل اليوم السابع للرب، أحفاد نوح، الأحبار حكاية مسيح، رسول القيامة..) ألفاظ تشي بحضور التأثر الديني بقوة..

“خوفاً من أن يسرق الخباز نصف عجيني

وكامل غبطتي،
تعوّدت دائماً أن أخبز عجين حياتي
بيديّ الغشيمتين
فأحرقه كاملاً.”
يستعرضُ أبوعفش الفجيعة بعيداً عن المشاهد المفزعة، فأثارت المشاعر التراجيدية على مستوى عالٍ، وهذا بحد ذاته ما يُثيرُ المتعة الجمالية، فالتراجيدي يرتبط بالمشاعر المؤلمة ولكنه يحمل المتعة كما عبّرَ عن ذلك الكاتب (جيروم ستولنيتزام) – التجربة التراجيدية تبعث الألم واللذة معاً- وهنا استخدم الشاعرُ تقنية التناص ببراعةٍ وإيحاءٍ غني يفيد الاختزال والتكثيف..
اليأس عنذ أبي عفش كأس مترعة، ولا مناص من نخبٍ أخير، نخب من موت مؤجل يضيعُ على موائد الانتظار، وختاماً نقف برفقة قبر ومأتم من نوعٍ آخر، وربيع مسروق من لصوص الإنسانية، مجنزر بالحياة، حاملاً آخر قبس من وجود إلى مرقده الأبدي.. نص يحملُ ساعة بلهاء، وسنة تلوك الأوجاع صمتاً، وحربٌ تعربدُ على أبواب الرب بكلِّ صفاقة، هو عمْرٌ كاملٌ بلحظة مذبحة.. مذبحة لين (ذكرى إلى وفاء أبوعفش)، في تلك الساعة من ذلك اليوم من تلك السنة من أهوال هذه الحرب،
“على باب عنبر إيواء الموتى،
حيث ترقد أشلاء طفلتها المذبوحة،
وقفت المرأة الثكلى، بدموعها اليابسة
ولسانها المشلول،
وتمتمت، في نفسها
كأنها لا ترغب بإيصال صرختها حتى إلى الله:
القديسون، أحباب ربهم القديسون،
لقد تركوني حيّة بالكامل
ولم يقطعوا إلا قلبي.”
و(الحقيقة دائماً هي ما نسي أن يقوله الموت).. بهذه الكلمات ينتهي بحث الربيع الحامل لكل هذه المآتم.. بيوميات مذيلة بتواريخ تحتفظ بشاهدةٍ لكلِّ نص قد ركب حافلته مُتجهاً إلى مسقط موته.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
دول عربية وأجنبية تعرب عن تضامنها مع إيران جراء حادثة الهبوط الاضطراري لطائرة رئيسي سورية تعرب عن تضامنها التام مع إيران وتمنياتها بالسلامة للرئيس رئيسي وللمسؤولين الذين كانوا معه الخامنئي: على الشعب الإيراني ألا يقلق ولن يكون هناك خلل في عمل البلاد الاتصالات والعدل تبحثان آليات تحويل بعض الخدمات العدلية إلى صيغة إلكترونية عبر منصة «أنجز» ذهبية وفضيتان لسورية في الريشة الطائرة في بطولة العرب البارلمبية بكلفة تقديرية تتجاوز 347 مليار ليرة.. إجازة استثمار جديدة لمشروع مجمع سياحي في طرطوس الصندوق الوطني لدعم المتضررين من الزلزال يوافق على إطلاق المرحلة الثانية من الدعم مجلس الشعب يناقش مشروع قانون إحداث الشركة العامة للصناعات الغذائية وزير التجارة الداخلية يذكر التجار بمسؤولياتهم المجتمعية.. ويطمئنهم : مستعدون للحوار والنقاش حول أي موضوع والتعاطي بمرونة وفق الأنظمة والقوانين بعد ملفات الفساد والتجاوزات.. هجوم شديد من أعضاء محافظة حلب على بعض المديرين.. ومطالبات بالإعفاء والتقييم المستمر