جرائم حرب في الرقة.. ألا تستحق المدينة العدالة؟

يوم الإثنين الماضي (18/4/2022) وجهت وزارة الخارجية والمغتربين رسالة جديدة، بنسختين، الأولى إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والثانية إلى رئيس مجلس الأمن «بخصوص جرائم الحرب التي ارتكبها ما يسمى “التحالف الدولي” في الرقة» مؤكدة أن “قضية تدمير مدينة الرقة وقتل آلاف الأبرياء فيها من التحالف الدولي غير الشرعي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لم تحظَ حتى اليوم بالاهتمام الدولي المطلوب.
وشددت الخارجية السورية في رسالتيها على أن “الوقت حان لتسليط الضوء على هذه القضية الإنسانية والقانونية والسياسية التي لم تمنحها الدول الأعضاء الأهمية والمعالجة اللتين تستحقانهما, وأضافت: إن سورية «ستستمر في إثارة قضية ما تعرضت له الرقة والباغوز وسد الفرات وغيرها من المناطق وستحتفظ بحقها في تحميل جميع حكومات الدول التي انخرطت في صفوف ما يسمى “التحالف الدولي” المسؤوليات السياسية والقانونية والأخلاقية والمادية عن الجرائم التي ارتكبها هذا التحالف».
** **
منذ بداية الحرب الإ*ره*ابية على سورية 2011 والدولة السورية تواظب على إرسال الرسائل إلى رئاستي الأمم المتحدة ومجلس الأمن لوضعهما بصورة ما تتعرض له من إرهاب ومن جرائم ضد الإنسانية على يد الولايات المتحدة (وتحالفها) سواء في المناطق التي تغتصبها في الشمال والشرق أو في حرب الحصار والعقوبات الاقتصادية وعلى رأسها ما يسمى “قانون قيصر”.
ولكثرة هذه الرسائل ودوامها ربما كفَّ المسؤولون الأمميّون عن عدّها، لكن الدولة السورية لن تكفَّ عن إرسالها، وستواظب بإصرار على هذه المسألة أياً تكن الانتقادات والتساؤلات حول جدواها.. وبعبارة أدق جدوى التوجه إلى الأمم المتحدة ومنظماتها طلباً للإنصاف وإحقاق الحق بمواجهة غطرسة وعدوان الولايات المتحدة الأميركية، حيث لا يخفى على أحد حول العالم أن الأمم المتحدة منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي ارتبطت بالولايات المتحدة، وتالياً كان من الطبيعي أن تهيمن عليها لاحقاً -ما بعد الحرب العالمية الثانية- باعتبارها أحد طرفي القوة العالميين اللذين أفرزتهما الحرب (أي مع الاتحاد السوفييتي سابقاً), ثم كقوة عالمية وحيدة ما بعد انتهاء الحرب الباردة بداية تسعينيات القرن الماضي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
****
بين الرقة و«بوتشا»
في الـ12 من نيسان الجاري، وفي لقاء صحفي مشترك بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، رد الرئيس بوتين على تعمد عدد من الصحفيين الغربيين استفزازه بالأسئلة عن مدينة بوتشا ومزاعم الأميركيين والأوروبيين التي تحاول إدانة روسيا بأحداثها عبر تزييف عمليات قتل فيها ومشاهد تمثيلية لمجازر كاذبة..
وكان رد بوتين بما لم يتوقعوه: هل زرتم مدينة الرقة السورية؟ عندما يحدثني زملائي الغربيون عن بوتشا.. أسألهم هل زرتم الرقة السورية؟ المقاتلات الأمريكية سوتها بالأرض والجثث التي انتشرت في المدينة أشهراً حتى تفسخت ولم يكترث أحد منكم لذلك.. كذلك لم يتذكر أحد منكم مئات القتلى الذين سقطوا بضربة واحدة وجهتها طائرة أمريكية لأحد الأعراس.. لم يأبه أحد لذلك. هدوء مطبق.. لكن هذا الهدوء لم نلحظه عندما تم تلفيق أعمال استفزازية في سورية, واتهموا الدولة السورية باستخدام الكيميائي، وتبين لاحقاً أن كل ذلك كان تزييفاً للحقائق، تماماً كما حصل في بوتشا، لا تعليق.. كان هذا هو الرد على كلام الرئيس بوتين.
لا يحتاج الغربيون زيارة الرقة، فهم يعرفون جيداً وحشية الأميركي، ومنهم -ربما- من زارها سراً، ولكن ليس ليُعاين ما اقترفته المقاتلات الأميركية من إبادة جماعية وتدمير شامل للمدينة، بل لمزيد من التآمر والتدمير والتحريض.
مع ذلك هناك من فعل وإن كان لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهؤلاء صحفيون غربيون زاروا مدينة الرقة وهالتهم مشاهد مدينة اختفت منها كل معالم الحياة, وإذا كانت تقاريرهم التي كتبوها لم تأخذ بها الأمم المتحدة ومنظماتها (علماً أنها أخذت بها للتحريض ضد سورية وبما يساند الولايات المتحدة في عدوانها على سورية أرضاً وشعباً), فإن تقارير أخرى لا تستطيع إلّا أن تأخذ بها، ومنها لمنظمات تابعة لها.. لكنها لم تفعل.
***
مدينة دمار

في تشرين الأول من عام 2020 أطلقت منظمة العفو الدولية «أمنيستي» موقعاً إلكترونياً تفاعلياً يوثق الجريمة الأميركية بحق مدينة الرقة، هذه الجريمة التي تزعم الولايات المتحدة وتحالفها أنها عملية تحرير للمدينة من تنظيم د*اع*ش الإر*هاب*ي الذي سيطر عليها في عام 2014، وانجلى غبار عملية التحالف في 17 تشرين الثاني من عام 2017 عن دمار شامل للمدينة ومقتل وإصابة الآلاف من سكانها ونزوح ما استطاع منهم النجاة, آمنيستي وثقت الجريمة بالصور ومقاطع الفيديو، وروايات الناجين، وصور الأقمار الصناعية التي تظهر وحشية القصف الأميركي الذي استمر حوالي خمسة أشهر، وحوّلها إلى مدينة للغبار والدمار..

«إنها حرب إبادة.. جريمة حرب خرق فيها التحالف كل القوانين الدولية وحقوق الإنسان», هكذا تقول دوناتيلا روفيرا كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية، والمحققة الرئيسة فيما تعرضت له الرقة على يد القوات الأميركية (وحلفائها) لتضيف: «كل مزاعم التحالف بأن ضرباته الجوية التي استهدفت عناصر تنظيم دا*ع*ش في الرقة وأدت إلى سقوط عدد قليل من الضحايا غير دقيقة ولا تصمد أمام الحقائق على الأرض.. على الأرض شهدنا أعلى مستوى من التدمير لم نره على مدى عقود من تغطيتنا آثار الحروب», وتتابع: عندما يُقتل الكثير من المدنيين في هجوم تلو الآخر، فمن الواضح أن هناك أمراً معيباً، وما يزيد من فداحة المأساة أن مجريات القصف الأميركي لمدينة الرقة لم يتم التحقيق فيها», وتتساءل روفيرا: ألا يستحق ضحاياها العدالة؟.
محققو آمنيستي قضوا شهوراً في الرقة، يجمعون الأدلة ويوثقونها.. استطلعوا 200 موقع تعرض للقصف.. واستمعوا لأكثر من 400 شاهد وناجٍ، فيما لم يقم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بأي تحقيق، وهذا طبيعي لأنه يعرف تماماً ما اقترفته يداه.
وفق محققي آمنيستي:
– تعد مدينة الرقة، على نطاق واسع، أكثر المدن دماراً في العصر الحديث.
– قضى في القصف الأميركي أكثر من 1600 من أهل الرقة، إضافة إلى آلاف المصابين، وهناك عائلات فقدت معظم أفرادها. الولايات المتحدة لم تعترف سوى بمسؤوليتها عن مقتل 159 فقط وبررت ذلك بما تسميه خسائر جانبية لا بدّ منها مقابل تحقيق الأهداف الرئيسة.. وتالياً فإن هذه الخسائر لا تستحق المقاضاة والمحاسبة.
– ينتمي الضحايا إلى مختلف الفئات الاجتماعية والاقتصادية وتتراوح أعمارهم ما بين فتاة رضيعة عمرها عام واحد ومسن في الثمانينيات من عمره.
– أكثر من 11 ألف مبنى مدمر بالكامل, من بينها 8 مستشفيات و29 مسجداً وأكثر من 40 مدرسة وخمس جامعات إضافة إلى نظام الري في المدينة.
– واصلت القوات الأميركية (وحلفاؤها) قصف المدينة بالطائرات والمدفعية ومناطق تعلم مسبقاً أنها مأهولة، وأن أهلها عالقون بينها وبين دا*ع*ش (وبين ما يسمى قوات ق*س*د التي تدعمها الولايات المتحدة) فمن لم تقتله الأولى قتل في القصف أو قتلته ق*س*د، وهكذا تحولت المدينة إلى «مصيدة للموت» لم ترحم كبيراً ولا صغيراً.
– القوات الأميركية أقرت بأنها أطلقت 35 ألف قذيفة مدفعية على مدينة الرقة وأنها كانت مسؤولة عن 90 % من الضربات الجوية.. وحسب اعتراف مسؤول عسكري أميركي وثقته آمنيستي فإن قذائف المدفعية التي أطلقت على الرقة أكثر عدداً مما أطلق في أي مكان آخر منذ حرب فيتنام.. وبالنظر إلى أن هامش الخطأ في المدفعية يزيد على 100 متر فلا غرابة أن تؤدي إلى أعداد هائلة من الضحايا والمصابين.
***
الرقة والقانون الدولي
الآن هل ينطبق القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان على ما جرى في الرقة باعتباره جريمة حرب، تستحق تقديم مرتكبيها للعدالة الدولية؟.
حسب الاختصاصيين فإن الجواب هو: نعم؛ لأن:
– ما فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها في الرقة هو هجمات عشوائية ألحقت أضراراً بالغة بالمدنيين ولم تميز في هذه الهجمات بين أهداف عسكرية ومدنية.
– مثل هذا السلوك ينتهك مبدأي التمييز والتناسب اللذين يُعدَّان من المتطلبات الأساسية للقانون الدولي الإنساني؛ أي إن الهجمات العشوائية أو غير المتناسبة هي جرائم حرب.
– القوات الأميركية والتحالف كانا على بينة تامة بأنها تشن هجماتها على مناطق حضرية, وأن من تقول: إنها تستهدفهم بهجماتهم، أي مسلحي داع*ش، متواجدون في هذه المناطق, وتالياً هي تدرك تماماً ما تنطوي عليه هذه الهجمات من مخاطر على حياة المدنيين.
– لم تأخذ القوات الأميركية والتحالف في الحسبان ما سبق ولو أنها فعلت لما سقط كل هذه العدد من الضحايا، وتالياً فهي تتحمل كامل المسؤولية.
*** رسائلنا ورسائلهم

بالعودة إلى السؤال الآنف بداية حول جدوى التوجه إلى الأمم المتحدة نقول: عندما توجه الجمهورية العربية السورية رسالة تلو الأخرى ودعوة تلو الأخرى إلى الأمم المتحدة, وإلى مجلس الأمن تطالب فيها بإدانة الإره*ابيي*ن وداعميهم ومموليهم في سورية، وتطالب بإدانة الاحتلال الأميركي (والتركي) للأراضي السورية، ووقف جرائمه ضد الشعب السوري، ومحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم أمام المحاكم الدولية، وعندما توجه سورية هذه الرسائل وتصر على الاستمرار فيها، فهي تفعل ذلك ليس لأنها تتوقع من الأمم المتحدة ومن منظماتها تحركاً جدياً أو حتى مجرد دعوة الولايات المتحدة لوقف احتلالها وجرائمها ضد سورية وأهلها، ولتكف عن انتهاكها سيادة سورية العضو في الأمم المتحدة ومنظماتها.. سورية إنما تفعل ذلك لـ: أولاً، لتضع الأمم المتحدة في كل مرة أمام مسؤولياتها، وأمام حقيقة تخاذلها وارتهانها لسياسة القوة والبطش والعدوان التي تمثلها الولايات المتحدة في سورية «وفي دول وأماكن كثيرة في العالم حالها كحال سورية».

ثانياً، لتضع الرأي العام العالمي، ولو للمرة المليون، أمام حقيقة من يدعي أنه يعمل من أجل السلام والأمان في سورية فيما هو لم يتوانَ ولم يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم في سورية، ومدينة الرقة ليست إلا مثالاً واحداً فقط.
ثالثاً، لتوثيق الحقائق والوقائع باليوم والشهر والسنة وفضح المجرمين الحقيقيين ضد سورية وأهلها، وهذا للتاريخ وللأجيال السورية القادمة حتى لا تكون ضحية لتاريخ يكتبه طرف واحد هو عدوهم القديم الجديد نفسه.
رابعاً، لتأكيد أن سورية والسوريين لن يكسرهم إرهاب أصيل ولا وكيل، لأنهم أهل حق ولأنهم أصحاب أرض ووطن، وهم يريدون أن يعرف كل العالم أن ما حلَّ بهم من وحشية وإرهاب وغدر لم يَحُلَّ بشعب قط ولم يشهد التاريخ مثيله.
خامساً، ما سبق لا يعني أن الجمهورية العربية السورية -جيشاً وقيادة ومؤسسات- لا تحترم الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية،التي خرجت من رحم الحروب والمعاناة الإنسانية لتكون مؤسسات للسلام في العالم , سورية تحترم وتقدر عالياً كل منظمة دولية وكل جهد دولي من أجل السلام العالمي- ومن وجوه الاحترام استمرارها في إرسال تلك الرسائل- ولكن لسورية الحق كل الحق أن تسأل لماذا لا تحرك هذه المنظمات ساكناً عندما يتعلق الأمر بدول المال الإره*اب*ي الذي دمر ويدمر دولاً عديدة وليس سورية فقط , دول أرادت أن تحمي أرضها وسيادتها وقرارها الحر بعيداً عن التبعية للأميركي ورفضاً لأن تكون من عبيده، هذا حق مشروع تكفله الأمم المتحدة نفسها لكل أعضائها فلم تقف عاجزة عن أسمى وأعظم مهامها؟.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار