النظام العالمي القادم سيكون منصفاً أكثر للشعوب
ليس حقل السياسة استثناء، بل هو موصول بالعالم الطبيعي، فوجب إذّاك استحضار الملاحظة والتجريب والاستقراء، وهذا يبدو واضحاً، لكن نضيف إليه أنّ الحدث السياسي ليس حدثاً مستقلاً ومتفرداً، بل هو نسق دلالي ومصفوفة. خذ مثالاً لذلك، أنّ الأحداث الكبرى تستدعي عدداً من الأحداث المرافقة، التي لا تشذّ عن وحدة التعليل، فالحدث من حيث النشأة والتطور، يستدعي حوادث أخرى.
إن كنت ستقرأ أحداث الحرب الروسية- الأكرونية بعيداً عن النسق الكلّي للهيمنة الإمبريالية على المجال الحيوي، فحتماً ستغرق في تفاصيل الأحداث مفصولة عن بعضها، وسيكون التجزيء مقتلاً للتحليل السياسي، تستطيع أن تقرأ في الحرب الروسية-الأوكرانية مضامين الحروب الخلفية: الحرب الباردة، الحرب على سورية ، حرب الاحتلال اليومية على الشعب الفلسطيني، النزاعات الأخرى في الإقليم وسائر الأقاليم، القراءة الصحيحة للأحداث لا تسهل المأمورية على الحدس السياسي إذا تجاهلت بنية العلاقات الدّولية.
التجزيء قاتل في القضايا النزاعية المختلفة، لا يمكن أن نتراخى في موضوع استهداف سورية ونرفع عقيرتنا في قضايا نزاعية أخرى ذات صلة في بنية الأزمات الإقليمية والدولية، الصامتون والمتذبذبون في الموقف من المؤامرة على دمشق لن يقنعونا بالعنترية في قضايا أخرى، مهما بدت عادلة ومحقّة، لقد تركت سورية تواجه التتار الجديد وحدها ما عدا أصدقاءها. بعض العطّارين أراهم اليوم يتحدثون كما لو أنهم بالفعل كانوا مع سورية في محنتها، بينما وجب أن نسأل؛ أين كانوا وماذا قالوا خلال عشر سنوات من هذه المحنة، بعضهم ما زلت أذكر كان يقول بحق القيادة السورية كلاماً سيئاً في جلسات خاصة، والآن يزحف على بطنه كالأفعى في اتجاه المؤيدين. السؤال: ماذا لا سمح الله، لو تحققت الرغبة الإمبريالية والحلم الرجعي في سقوط سورية ؟ السؤال سيكون: أين تتوقع أن يكون هؤلاء الذين كانوا في مواقع متذبذة؟
تساءل أحدهم في الصحافة بداية الأزمة، مستهتراً بموقفي آنذاك: ماذا سيكون موقفك إن سقطت سورية ؟
جوابي هو: لم أكن أتوقع يوماً هذا السقوط، وبالتالي هذا السؤال لم يكن يعنيني إطلاقاً، ولكن إن شئت أن نمضي في هذا السؤال الافتراضي، فإنّني كنت سأدافع عن سورية حتى حينما يحصل ما كان في أحلام العدو، سأرثيها وكلّي يقين، إنّنا لم نضرب حسابات انتهازية في هذه الحرب، بل أصلاً انحدرنا من رحم المبادئ والقناعات.. في تلك الأيام ازدهرت تجارة بيع الذمم، وكان الممثلون التجاريون لتلك السوق يطرقون أبوابنا، وكان ثمننا في هذه التجارة أغلى من بعض البهاليل الذين باتت ألسنتهم بسبع شفرات، وكان هذا شرف لنا وليس منّة، كانت سورية عنوان التحدي، يعني كل إنسان في هذا الإقليم المُضام، ولقد كانوا قلعة صامدة وبيئة صالحة للوفاء للمبادئ الكبرى، كنا نعتبرها قضيتنا، ولما تكون القضية شخصية، فهي غير قابلة للحسابات.
حينما أنظر إلى الرئيس الروسي بوتين في الحرب الأوكرانية، أنظر إلى ذلك الرجل الذي أدرك في وقت مبكّر بأنّ عمقه الاستراتيجي كان في سورية، ولذا كان حاضراً في ذروة الصراع، سورية أعلنت عن موقفها المساند لروسيا، وروسيا أعلنت في وقت سابقاً عن وفائها لسورية باستعمال الفيتو أكثر من مرة في مجلس الأمن في وجه مشاريع قرارات ظالمة. الحرب في أوكرانيا هي إتمام لما بدئ في سورية ، هي معركة تمس بنية النظام الدولي من أجل نظام عالمي جديد. لم ننظر يومئذ للحرب على سورية كحرب مفردة أو” ربيع عربي” وما إليها من عناوين مبهمة، بل نظرنا إليها كحرب عالمية في سورية ، نزلت فيها الإمبريالية بكل ثقلها.
لا يوجد وضع استثنائي أو معزول، فالنسق الدولي متداخل، والنّأي بالنفس مغالطة سياسية. إن المراهنة على نظام عالمي جديد، من شأنه أن يحلحل جملة من النزاعات، ويحدث اختراقات في الباب المسدود. إن النظام العالمي الجديد مرعب ومخيف لمن عاش على قاعدة اشتباك القطب الواحد المستقطب، هو عالم مرعب للاحتلال الذي لا مستقبل له في زمن تعدد الأقطاب، ولهذا ندرك كيف سعى الاحتلال لاحتواء كل التوقعات الممكنة، وليست أوكرانيا ببعيد، فروسيا تدرك أنّ هناك ترتيبات قادمة لفرض أمر واقع، لحالة من الترانسفير القادم. إنّ عقوداً من الصمود والكفاح أتت أُكلها، في تأثير بنيوي على النظام الدولي، اليوم النسق كله سيسهّل التقدم في اتجاه العدالة، وهذا هو مصدر تفاؤلنا.
كاتب من المغرب