دارة الرداءة الدرامية
أحزن كثيراً على جمهور المسلسلات التلفزيونية، ولاسيما منهم الذين لا يعرفون عن الدراما شيئاً إلا من خلال ما شاهدوه منذ طفولتهم على الشاشة الصغيرة، بحيث إنهم يتأثرون بأبسط المواقف الدرامية، وقد يذرفون الدموع إن رافق المشهد موسيقا حزينة، وفي حال انفعل الممثل قليلاً يظنون أنه يستحق أهم الجوائز وأرفعها قيمة، وإن شاهدوا الممثلة تصرخ تفريغاً لمشاعر ما، يعتقدون أنها الآن وصلت إلى مجد التمثيل، وباتت في أعلى قممه.
أحزن عليهم، لأنهم قَوْقَعُوا مشاهداتهم ومعرفتهم بالدراما من خلال هذه المسلسلات فقط، ولم يحضروا عرضاً مسرحياً يُقدِّم لهم الممثل الحقيقي كملك على الخشبة، ولم يذهبوا إلى السينما لمتابعة الأفلام التي يُعتَدّ بها، في تظهير إمكانات الممثلين حتى لو لم يقولوا كلمة واحدة، ناهيك بأنهم لم يقرؤوا كتاباً عن فن التمثيل أو تاريخه أو تطور مدارسه، أو ما هي أدوات الممثل في الإمساك بالشخصية وإرضاخها لمشاعره الخاصة، وكيفية تبنّيها، وما إلى هنالك من تفاصيل بسيطة ينبغي الإلمام بها.
أحزن على جمهور المسلسلات، لأنه ينبهر بما لا يبهر، ويتعاطف مع ما لا يجوز التعاطف معه، فجهله يمتد إلى السيناريو بمجمل تفاصيله، لذا هو غير قادر على محاكمة الفكرة الرئيسة، ولا الشخصيات الأساسية والثانوية، ولا يستطيع أن يبني حكماً نقدياً عن آليات بناء الحبكة، وتطور الخطوط الدرامية، الرئيسية والفرعية، ويكتفي بالتوصيفات الفارغة من مثل “نص خارق” أو “سيناريو رائع” أو “سيناريست فَلْتة”، وفي السياق ذاته تراه ينعت أداء ممثلة بأنه “قوي” أو “استثنائي”، بينما يقول عن أداء ممثل بأنه “باهر” أو “جذّاب”، وكأنه يملأ الفراغ بفراغ، فلا أدوات معرفية لديه لامتلاك زاوية نظر صحيحة تجاه أي مفصل درامي، وفوق ذلك تراه يتبجح ويتنطَّع بأحكام عن مسيرة الدراما التلفزيونية، فمرة يؤكد على تراجعها، ومرة يرى أنها عادت إلى ألقها، غير عالِمٍ أن رؤيته النقدية معدومة، أو في أحسن الأحوال، تعاني قصرَ نظرٍ، أو انحرافاً جذرياً، وحتى لو أدرك ذلك، فإنه لن يتوانى عن الإدلاء بدلوه، ومن يقرأ منشوراته الفيسبوكية سيدرك مدى علوّ كعبه النقدي، بحيث تتمنى لو بإمكانك أن تطرقه بذاك الكعب ذاته على رأسه، لعلَّه يصحو قليلاً، ويعود إلى رشده، ويعرف مكانته الحقيقية، ويكفّ عن الترويج لمصطلح، مرَّ معه مصادفة، وهو “موت الناقد”، ويضع نفسه الوريث الشرعي الوحيد له، ويبدأ برمي الأحكام الدرامية (ع الطالعة والنازلة)، بحيث لا يترك مسلسلاً من شَرِّهِ، ولو كان على هيئة مديح عالي المستوى للنص، أو تطبيل وتزمير لأداء متقن، أو تدبيج قصائد بإدارة المخرج الفذ، فكل ذلك يكمن الشَّرّ فيه في كونه غير مستحق، ولتكتمل دارة الرداءة الدرامية، فإن معظم مفاصل العمل الدرامي، من الكاتب إلى الممثلين إلى المخرج، يمثلون على ذاك الجمهور، ويمثلون به، وهو لجهله يُصفِّق لهم، ويتابع مسلسل مدائحه الخاصة والعامة، فتبدو الصورة العامة وكأنه يتغزَّل بقاتله الدرامي، لدرجة تتمنى أنه لو بالإمكان إنشاء لجان متخصصة، ليس بقراءة النصوص وتقييمها قبل السماح لها بأن تتحول إلى صورة، وإنما أن تمتد إلى لجان تقييم للمشاهد وحركة الكاميرا وإدارة الممثل، وأخرى لتقويم أداء الممثل و(دوزنة) انفعالاته وترشيد صراخه عند عدم اللزوم، ورابعة لضبط دراما الضوء، والاعتناء بالديكور والاهتمام بأزياء الشخصيات،… والأهم إنشاء لجان لتثقيف الجمهور بكل ذلك، بحيث يفتح التلفزيون وهو محصَّن بالمعرفة الدرامية، كي لا يبقى «متل الأطرش بالزفة»، وكي لا تصبح أحكامه النقدية لا قيمة حقيقية لها، أو كما يقال مثل «الرباط على البلاط» .. ودمتم.