بقصيدةٍ لها شجرتها العائلية الوارفة.. يؤكد نزار بريك هنيدي أن «لا وقت إلا للحياة»!

ما يُميز القول الشعري لدى نزار بريك هنيدي في بعض ملامحه؛ أنه ليس منقطعاً من شجرة عائلة الشعر، وهنيدي الذي حجز لقصيدته مكانتها اللائقة في ديوان الشعر السوري منذ عتيٍّ من السنين؛ بقي يمدُّ لقصيدته علاقاتها العائلية مع تجارب شعرية أخرى لشعراء، مرة كحفاوة بتلك التجارب، وحيناً كمعارضات معها، كأن يُناكفها قليلاً مثلاً، وطوراً يؤطرها كلوحة عزيزة يضعها مدخلاً على جدار صالة استقبال المجموعة الشعرية.. وليس أدلُ على امتداد قصيدة هنيدي وعلاقاتها الودودة؛ ما تقوله نصوص مجموعته الشعرية «لا وقت إلا للحياة» الصادرة عن اتحاد الكتّاب العرب، إذ يفتتحها بنصين: الأول لـ«استيفان مالارميه»، والثاني لمحمود دوريش، ثم يختمُ المجموعة بمعارضات لكل من: امرئ القيس، الشنفرى، عنترة، طرفة بن العبد، الأعشى، المتنبي، وحتى تمتدُّ معارضاته لغير الشعراء كابن سينا..
وعلى موعدٍ مع الحياة؛ إذ لا وقت لمواعيد خارج حدودها، ولمجموعةٍ شعرية يبنيها بمنمنماتٍ وجدانية لتنتشي سرائرنا تحت وقع احتساء كأس البياض الأخير.. ومن نقطة نهاية كانت «منكِ أبدأ» وأمام جلال المكان وقفنا، في قصيدة مجد الشمس على ربا الجولان الأثير، مصوراً وحشية الأمريكي على أرض بابل ونخيلها.
لينتقل الشاعر في صرخة لتأميم العقل في وجه طيور الظلام، وقتل الحياة وحالة الوجوم التي سادت وما تزال تسود منذ ألف عام، ليكون الختام بمسك مع ثلة من الشعراء عارضهم الشاعر متقفياً أثر الضليل، وباحثاً في غوغائية الصعاليك، ومرسلاً رسالته إلى طرفة بن العبد، ومودعاً على طريقة صناجة العرب مركب هريرته، ماراً بابن سينا وفلسفة الحياة بانبثاق البشرية الأولى..
ثم ليختم لنا كل بواباته برسالة إلى متنبي العربية -مالئ دنياه وشاغل ناس عصره- وذلك برسائل حملت سمة التضمين والتناص، حاملةً إيانا إلى نصوصهم الأم التي اشتهروا بها، فكانت الرسائل إلى الضليل امرئ القيس، والصعلوك الشنفرى، وسيد الفوارس عنترة، وصاحب أشهر الأقوال طرفة، مروراً بابن سينا وجدليته الفلسفية في الوجود والإنسانية، وختاماً بمتنبي الدهور.
“ماذا لو أنَّ الريحَ جرتْ
– يا صاحِ –
كما اشتهتِ السفن؟
هل كان يُصالحنا الزمن؟”

وعلى ذلك؛ استطاع هنيدي أن يدق ناقوس الجمال بلغةٍ عفوية وبمشهدية حساسة تقصدها كلعبةٍ فنية لا يملُّ إغواءها.. وتأتي الـ«منمنمات» كنصوص شعرية قصيرة مقتضبة، حملت بلغتها الشعرية وبخواتيمها الشائقة وما حوته من تكثيفٍ وإيحاء الأدب الوجيز؛ أنها استطاعت أن تحدث تلاحماً عضوياً بين اللحظة الشعورية والشكل الوميضي الذي قُدمت فيه، تجاوز تعدادها اثنتين وثلاثين ومضة بعناوين تناغي الذائقة وتطرب اللب، وقد اتكأت على الثنائيات الضدية، وعلى حقول دلالية ترفع الحالة الشعورية للشاعر بطريقة فنية منوِّعة ما بين «الحزن والموت، والعدمية، والحياة والحب»
“مشكاة…
قلبي مشكاة!
مشكاة أشعلُ فيها
كل صباحٍ
شمعةَ حبّ؛
كي أستدرج
أطياف الأشياء
إلى لهب الكلمات!”
وبعناوين كـ«حبر، الوردة، خصام، لمسة، منزل القلب، القليل القليل»؛ تتسربُ إلى الأوردة انقباضات بالأوداج لتؤكد أنه لا وقت إلا للحب والحياة ففي الـ:
“ذكرى
شارعٌ خالٍ،
ومصباح وحيد؛
كل ما يحتاجه العاشق
كي يستحضر الرعشة
من ذاكرة الحب البعيد.”
نص يأخذنا بتلابيبه إلى أقصى حدود التكثيف والإيحاء الذي يثير حفيظة الشعور، ويسقط القارئُ سهواً في كمائن التخييل.. اهتمّ الشاعر بالوقع الموسيقي لكل ومضاته مُحدثاً بحروفه الهامسة ووقع محسناته البديعية وقعاً وجرساً موسيقياً مطرباً، كما في القصيدة التي حملت عنوان المجموعة «لا وقت إلا للحياة»:
“لا وقت كي نستلّ من آلامنا
ما غار في القاع المكين..
لا وقت كي تستعرض الأحداق
ما اختزنته من صورٍ
لحرّاسٍ
يهيلون التراب على بقايا
لم تفارقها اختلاجات الأنين.
لا وقت
كي نستحضر النار التي
صقلت جموح الصبوة الأولى.”
ومن ثمّ لينقلنا الشاعر إلى قصيدة حملت بعداً فلسفياً خاصاً يوقفك في محراب البهاء تحت عنوان «كأس البياض الأخير»، إذ برزت فيه العناصر الشعورية والنفسية للتضاد، مُظهرة جدلية ما في نقائض اللفظ الذي يقودنا إلى افتراض وجود نقائض نفسية معبرة عن توتر يختلج ذات الشاعر وكينونته.
“ليس غير البياض
فهل هو لون النهاية؟
هل ينتهي الكون
في لجّة
من بياض بهيم؟!
ها أنا أتلاشى
كأني أثير تبخّر
من جلد جسمي السقيم…
(..)
ها أنا الآن
أدخل في ملكوت العماء العظيم!!”
حمل الشاعر في ديوانه تنوعات بين العواطف الوجدانية والوطنية، فكان لـ«مجدل شمس» حضورها الدافئ الذي غزل من خيوط شمسها جدائل لتحكي قصة مجد وأشباح ليل طويل..
“قل لمن دوّخته المسارات،
وهي تدور به،
حول وهم سلامٍ هزيل:
لا سلام
إذا لم يفلّ الحديدَ الحديدُ،
ولم يتكسر صليل السيوف،
على سنديان الصليل
كل طفل
على أرض جولاننا

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار