ابن المقفع، ما أحوجنا اليوم لاستحضار حكاياه والتعمق بخفايا رموزه واستعاراته المكنية التي تؤكد حتمية بعث التأريخ وتكرار ولادته من ثنائية رحم هش ضعيف وٱخر صنديد قوي يحسن التعبير عن ماهية الحياة، ربما هي فذلكة الطبيعة ككل، وتعبير عملي لفكرة خلق الناصع الأبيض من ضلع السواد، وربما العكس!
ولأن الطبيعة في فكر ابن المقفع -ولن أتحدث عما ورائيات السبب الحقيقي- كانت خليطاً حياً للكائنات البشرية سواء تمادى بتأطير قصصه وحِكمه وحكاها على لسان حيوانات.. لا أعلم السبب المباشر وراء احتلال «كليلة ودمنة» مخيلتي لكنني مؤمنة بنظرية التراكم، تراكم القصص الشبيهة حدَّ الامتلاء، أوليس بما فيه ينضح (الإناء)؟
وخير الكلام ليس ما قلَّ ودلَّ وإنما خيرُه قصة رواها يوماً ابن المقفع بإحداثيات يفرضها قانون الغاب، وقصتي المختارة أبطالها ابن ٱوى وغراب، تحكي القصة- بما معناه- عن غراب يسكن وكراً في شجرة، ويسكن في الجوار ثعبان يأكل له البيوض والفراخ، حتى صارت لوعته تقض مضجعه وتخنق مع أطفاله نَفَس صدره وزفيرَ المنقار..
الغراب المكلوم شاور ابن ٱوى بعزمه أن يفقأ عيني الثعبان كطريقة انتقام، إلا أن الفكرة لم تلقَ عند ابن ٱوى أي استحسان، ورفضها رفضاً تاماً بعد أن قصَّ عليه تجارب مثيلة كانت خاتمتها الموت والهلاك، ونصحه بحيلة يصيب الغراب غايته من دون مخاطر وعناء ، ولا حتى احتمالية وقوعه فريسة بين أنياب الثعبان، والحيلة كانت مبنية على سرقة الغراب حلي نساء والاستعراض بالطيران أمام أعين السيدة المنهوبة والجيران، حتى يتبعوه إلى أن يصل جحر الثعبان ويرمي الحلي فيه، وليترك حينها نفوق الثعبان على يد الناس.. وبالفعل طبّق الغراب حيلة ابن ٱوى وتخلص من غريمه من دون أن يتلطخ منقاره بالدماء.. لأنه وعلى حدِّ زعم الحكيم ابن المقفع الذي سبق زمانه (بكتاب) مدة صلاحيته تتجدد في كل زمان ومكان، قالها يوماً على لسان بطله ابن ٱوى “بعض الحيل يا سادة مهلكة للمحتال” فهل من غراب مكلوم يكرر اليوم العِبر وينتقم من عدوه خير انتقام من دون أي نقرة منقار!