أيمن زيدان.. يشرّع بوابات الفرح لـ 66 ضيفاً ثقيلاً
“على الشاطئ المهجور، طوى النورس العجوز جناحيه واتكأ على صخرة عتيقة يلملم بقايا ذكرياته الغابرة.. أدركه وهن العمر فاستسلم لإغفاءة عميقة.. في الصباح، وحين تموضعت الشمس في زاوية الفجر الدامي، كانت جثة النورس العجوز قد تسجّت على الموج الراكد، بينما بدأ نورس آخر إغفاءته على الصخرة العتيقة”..
بعبارات هذه الخاطرة المليئة بالحزن والشجون، دأب الفنان والمخرج السوري الكبير، أيمن زيدان، على نقل صور من حياته شبه اليومية، الواقعية، إلى الحياة الافتراضية التي أصبحت -بالنسبة له- فسحة رحبة تتسع للكثير من الحروف والصور، فأضحت متنفساً لا غنى عنه بالنسبة لفنان كبير ذي مستوى ثقافي وفني رفيع لا تكفي مئات المشاهد التلفزيونية والأفلام المصورة، بل تضيق، بخواطره المتفجرة، والتي زادت في غزارتها الحرب التي تُشنّ على البلاد منذ سنوات عديدة وطالت الفئات والقطاعات كافة.
هكذا استقبل الفنان زيدان العام الجديد، 2022، وكتب في منشور على صفحته الرسمية في “فيسبوك” ما لم يحمل في طياته، للأسف، نظرة أكثر تفاؤلاً من منشورات العام الذي انطوى. قال: “ساعات قليلة ويعلن العام الجديد عن حضوره الذي بت واثقاً أنه سيكون ثقيلاً.. ستة وستون عاماً غادرتني وفي حقيبتها حكايات من الخيبة والبهجة، وقصص من الحزن والفرح، وجوه وأحبة، لافتات أمل ودروب وعرة.. أحباء رحلوا وقلة من أصدقاء جدد ركبوا معي يوماً قطار العمر الأحمق.. سرنا معاً عمراً مديداً.. حلمنا وحلمنا، وسرعان ما اعترفنا أننا هُزمنا”.
هنا لا مجال للشك في أن الحرب المستمرة على سورية منذ 10 سنوات لا تزال تضع أوزارها على كاهل زيدان، وترسم تقاسيمها وتجاعيدها الغزيرة على وجهه الذي تأقلمت تعابيره مع هذه القساوة، واعتادت عليها، وأصبحت رفيقة دربه، إلا أن ذلك لم يثنه عن متابعة مسيرة إبداعه، بل على العكس يبدو أنها فجرت العبقرية الكامنة لديه، ففاضت الساحة الفنية والسينمائية بأعماله الفذّة.
تابع زيدان في منشوره يقول: “لم يعد يعنيني أن يدق خريف العمر بوابة المتبقي من حياتي فأنا أعرف ما سيحمله لي.. خيانات جسد، وشذرات من وهم أمل، والكثير الكثير من الهزائم.. ستة وستون ضيفاً ثقيلاً قاموا بزيارتي، وكنت في كل مرة أحتفي بهم، وأشرّع بوابات الفرح ليعبروها إلى قلبي.. ولكن منذ عشر سنوات ونيف صاروا ضيوفاً قساة”.
لو كان هناك تسمية للّون الذي يصبغ كلمات زيدان هذه، وكلمات معظم منشوراته في الواقع الافتراضي “فيسبوك”، لكانت هناك تسمية “ألوان الحرب السوداء”، وأطيافها القاتمة التي صبغت الكثير من الجوانب، كما يراها.
إن الفنان والمخرج الذي عرفناه منذ بدايات مسيرته الفنية حتى يومنا هذا وجد في العالم الافتراضي حياة جديدة، قرّر أن يعيشها، وأن يعكس لنا من خلالها ما يريد أن يشير إليه في أعماله الفنية، ولكن بطريقة مختلفة لا تحتاج إلى مشهد وتصوير وصوت دائماً، وإنما في أغلب الأحيان تحتاج إلى عبارات مقتضبة، كما كتب بتاريخ 4 كانون الأول عشية يوم الميلاد: “وتأتي الأعياد خجولةً في وطن كان يوماً نبع فرح”!.
رغم ذلك، يُصرّ زيدان على أنه، رغم كل هذا السواد، ليس أمامنا إلا أن نكون بشراً وأناساً ينثرون الخير ويتركون الأثر الطيب خلال حياتهم لتدوم آثارها بعد رحيلهم الأبدي. فكتب قبل حوالي أسبوعين في صفحته: “الموت لا يعني رحيل الجسد.. الموت هو ألا يترك أحدنا أثراً نبيلاً بعد الرحيل”.
وفي تعريجة له على من يصفهم بالشرفاء في الوطن، والحال الذي وصلوا إليه اليوم، كتب زيدان متسائلاً: “لماذا بات الوطن يضيق بالشرفاء؟ يا وطني الذي كان رحباً كم تضيق!”.
هذا، وقد استغل زيدان فسحة العالم الافتراضي لمديح واستذكار الكثير من اللحظات الجيدة في مسيرة حياته، وكذلك الأمر بالنسبة لرثاء من فقدهم من الأصدقاء، ومن الوسط الفكري الثقافي الذي ينغمس فيه، فكتب في يوم رحيل الكاتب السوري والزميل وليد معماري: “كم هو موجع خبر رحيلك.. وليد معماري وداعاً”.
هكذا يقضي الفنان زيدان أيامه في زيادة مخزونه الفني الرائع من دون توقف، ولا يزال قلبه وعقله ينبضان وينضحان بكل ما ينتمي للفن الراقي والجميل، على أمل زوال المآسي وانخماد الحريق الذي أتى على الكثير من حياتنا.
كتب في منشور له: “لا أعرفُ حتى اللحظة كيف نوقفُ شر الفوضى… كل أملي أن تخبو حرائقنا الصغيرة فما عاد هناك في الروح المتعبة فسحةً للهب”.