لا يمكن قراءة التطورات في المشهد التركي بمعزل عن التيارات العالمية رغم أن الصراع الداخلي على الساحة التركية أخذ شكل صراع ما بين «حركة إخوانية» صاعدة توافرت لها عوامل التمدد وبين حركة علمانية تضافرت ضدها عوامل الفشل «في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية»، فقد ورثت «العلمانية التركية» مشكلات كثيرة عجزت عن إيجاد حلول لها، ففي الشرق شكلت المسألة الكردية التي أخذت شكل حرب حقيقية منذ عام 1985 عاملاً في عدم الاستقرار الداخلي أضيفت إلى مشكلة قبرص، وجاءت التحولات العالمية لتسلب من تركيا العديد من الأوراق السياسية المهمة التي كانت تمتلكها، حيث بقيت تركيا طوال عصر الحرب الباردة تشكل ما يمكن تسميته بالجبهة الجنوبية للدفاع عن الغرب في مواجهة «الاتحاد السوفييتي السابق».
سعت تركيا بعد ذلك إلى الالتفاف على خسارتها هذا الدور، فتوجهت إلى دعم قدرتها العسكرية عبر الارتباط بحلف شمال الأطلسي «ناتو»، وأدى ذلك بصورة طبيعية إلى تعاظم دور «العسكر» الذين عدّوا أنفسهم حماة النظام العلماني الذي تركه لهم «أتاتورك» والمدافعين عنه، وبالتالي هم من سارعوا للبحث عن دور إقليمي بالتوازي مع حل المسألة الكردية عسكرياً، والمسألة القبرصية سياسياً.
ثم جاءت حرب الخليج الثالثة التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق، لفسح المجال أمام القيادة التركية العسكرية لتعبّر عن نوازعها بوضوح تجاه العراق، فكانت الأعمال الهجومية المتتالية لاجتياح شمال العراق بذريعة «مطاردة الأكراد» عاملاً لحرمان الأمريكيين من فرصة حل المشكلة الكردية، كذلك أدت عودة جمهوريات آسيا الوسطى إلى المسرح السياسي الدولي إلى تشكيل حافز لدعم من تسميهم تركيا «الإخوة في جزيرة القرم»، حيث وجدت أنهم يستطيعون ممارسة دور بديل يعزز حضورها في آسيا الوسطى، ولاسيما مع وجود منافسة إيرانية عبر أذربيجان، غير أن ذلك أثار في الوقت ذاته مشكلة «محاربة الأصولية الدينية»، إذ من المعروف أن انتهاء عصر الحرب الباردة اقترن ببحث عواصم الغرب «باريس ولندن» عن عدوٍ جديد «مفترض» لتوجيه الآلة الحربية ضده فكان هذا العدو هو «الأصولية الدينية».
وافقت الولايات المتحدة على هذا التوجه واعتمدته في سياستها الخارجية، وكان ذلك بداية المأزق التركي، إذ كيف يمكن التوجه دينياً لمخاطبة شعوب آسيا الوسطى التي ظهرت على سطحها بعض بواكير ما أطلق عليه اسم «الأصولية» مع زعم الحليف الأمريكي بمحاربة الأصولية؟ ثم كيف لحزب الرفاه الإسلامي الذي كان متصدراً الساحة التركية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أن يتجاوز الخطوط الخضراء في تعامله مع الدول العربية والدول المجاورة لها وفي طليعتها «إيران وباكستان» على قاعدة إسلامية؟ وإذا كان لا بدّ من الالتزام بـ«سياسة أتاتورك» التي خلفت العرب والإسلام وراء ظهرها وتوجهت بكاملها نحو الغرب فكيف يمكن التوفيق بين سياسة عقد العشرينيات ومتطلبات التحولات العالمية والإقليمية في نهاية القرن الحادي والعشرين؟.
هنا ظهر الدور الأمريكي في توجيه العسكر التركي للتحالف استراتيجياً مع «إسرائيل» للخروج من المأزق، وفي الجانب الآخر أرادت تركيا أن يكون لها تأثير على اليونان، لكن أوروبا مجتمعة وقفت إلى جانب اليونان ضدها، «تركيا احتلت نصف جزيرة قبرص عام 1974 وكان لليونان دورها في حرمان تركيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حيث بقيت تركيا مستجدية السماح لها بتجاوز عتبة الاتحاد الأوروبي».
وكان لحزب العدالة والتنمية الذي تسلّم السلطة في تركيا بداية هذه الألفية، أثر رجعي في مسألة البحث عن دور إقليمي، فبعد أن وجد هذا الحزب آذاناً مُصغية له في المنطقة، واستطاع أن يوسع نفوذه مع استلام الإخوان المسلمين السلطة في عدد من دول المنطقة، انقلبت الأوضاع ضده، ليخسر كل ما كسبه خلال عقد «الربيع المشؤوم»، ووصل مسار هذا الانقلاب إلى حلفائه الأوروبيين الذين انقلبوا عليه بدورهم، وتنصلوا من العلاقات مع نظامه ومع أطماعه العثمانية في المنطقة، خصوصاً حربه على سورية واحتلاله جزءاً من أراضيها عبر المجموعات الإرهابية التي موّلها وسلّحها، وهو لا يزال على هذه السياسة، والأمر نفسه يقال عن دور النظام التركي في ليبيا.
لقد خسرت تركيا دورها ومصداقيتها كدولة جارة يفترض بها أن تكون صديقة وتراعي علاقات حسن الجوار، وأن تدرك أنها جزء من المنطقة وليست مهيمنة عليها، فمستقبل هذه المنطقة يكون بتضافر جهود كل دولها، وليس بالأطماع الاستعمارية ومحاولات التدخل وتجنيد مرتزقة وإرهابيين لزرع الفوضى والاضطرابات والإرهاب الذي سينعكس على كل دول المنطقة بما فيها تركيا نفسها.
كاتب وأكاديمي عراقي
قد يعجبك ايضا