الذائقة التائهة .. بين الربابة البدوية والقيثارة السورية!

عطبٌ ما ألمَّ بالمخيلة المحلية، فجعلها ذات وترٍ واحدٍ على هيئة مربع أو مستطيل، بعد أن كانت مفتوحة الآفاق غير مغلقة وصاحبة أحد عشر وتراً، ويزيد عمرها على أربعة آلاف وخمسمئة سنة!. وربما يعدّ هذا جذر المشكلة لما نسميه اليوم بغياب الأغنية وانحسار الخصوصية الموسيقية السورية التي خضعت لتدجينٍ مُورس بحقها خلال مئات من السنوات!. بالطبع، هذا ليس تقريعاً أو تخفيفاً من شأن آلات الوتر الواحد التي يمكن أن تمتلك جمالياتها ضمن حدود البيئة التي وُلدت فيها، لكنها تبدو ضيقة على بيئات أخرى سبق لها أن اخترعت السلم السباعي الموسيقي وكان لها الفضل في تسويق الكثير من الآلات الموسيقية إلى العالم.
هذا الأمر ينطبق على الشعر والفلسفة ومناحي الفكر الأخرى، فأحادية الوتر ونمطيته في البيئة البدوية، كان من شأنهما أن يعمّما نوعاً من الأحادية الفقيرة التي صبغت بقية الفنون بلون واحد، وذلك انسجاماً مع تبعات الانسلاخ عن الهوية وفرض حالة مغايرة تسيّدت على تعدد الأوتار وغنى الاحتمالات في قوس قزح الذائقة عند السوريين التي أصبحت ساكنة ومستقرة. وعندما نتحدث عن ذائقة سورية هنا، فإننا نعني ذلك القوس الممتد من البحر المتوسط وطوروس إلى زغروس والخليج وصولاً إلى البحر الأحمر، وهو الحال الجغرافي الطبيعي الذي يشير إليه علماء التاريخ عندما يناقشون قضايا من هذا النوع.
اندحار الخصوصية السورية في مرحلة من التاريخ وتعديلها لتصبح ذات وتر واحد في الحياة والفكر والفن، كان من الطبيعي أن يوصلنا اليوم إلى ما نحن فيه عندما نتحدث عن الأغنية السورية بمفهومها العام، وتحديداً تلك الموجهة للأطفال وإلى جانبها الموسيقا التي نقّبَ عنها كثيراً الموسيقي نوري إسكندر ونبشها ثم قام بتدوينها بعد أن كانت شفهية معزولة ضمن أماكن معينة لا يعرف عنها السوريون شيئاً إنما يمارسونها في طقوسهم الشعبية بشكل عفوي، إذ إن هذا الشغف لم يمت تماماً وإنما كان يتبدّى في حالات وطقوس مختلفة من دون أن يقوم أحد بمنهجته وإنقاذه من الغمر الذي طال كثيراً من مفاصله حتى وصلنا إلى حالة تعرضت فيها المخيلة والذائقة لتشوهات كثيرة نشهدها اليوم في مختلف الفنون.
اليوم لا توجد مديرية مسؤولة عن إنتاج الأغنية السورية على شاكلة ما تم توفيره للدراما، وبالتالي كان من الطبيعي أن تعاني الأغنية المحلية في الشام كوارث كبيرة على عكس ما حصل في لبنان على أيدي الرحابنة وفيروز الذين توفرت لهم شروط مختلفة ساعدتهم في شق عصا الطاعة على اضطهاد الوتر الواحد في الكلمة والموسيقا والصوت، ليُنتِجوا فناً محلياً هو الأكثر صلة بالقيثارة السومرية السورية القديمة متعددة الأوتار والأكثر قابلية للإبداع.. لقد ولد في الشام العديد من المواهب التي حملت تلك الخصوصية لكن لأسباب تسويقية إنتاجية وغيرها، لم يكتب لها النجاح بالشكل الصحيح، فمال بعضها إلى لون أغنيات الكراجات لأن ذائقة الوتر الواحد هي المسيطرة عملياً على سوق الشاشات الفضائية وشركات الإنتاج وتوظيف رؤوس المال، أما ما فعله «المدوّنون» الحقيقيون على صعيد نبش التراث الموسيقي فبقي جهوداً فردية لم نسمع بها ولم تصلنا إلا عبر إهداءات وتدوينات لم تأخذ شكل العمل المؤسساتي للأسف.
كان من الممكن أن يتطور الكثير من الغناء الجبلي الشامي كي يترك بصمة تشبه ما فعله الرحابنة في لبنان، وكان يمكن أن يحدث ذلك أيضاً في المنطقة الداخلية والفراتية، لكن ما جرى على الأرض جعل الجميع يكررون التجربة نفسها عندما انصاعوا للذائقة الغازية ذات الوتر الواحد التي سطّحت الذائقة وجعلتها قفراء خالية من التبدلات المفاجئة انسجاماً مع جغرافيا الصحراء، وبالتالي كان من الطبيعي أن نتساءل كيف يمكن لإنسان لا يعرف ماذا صنع أجداده على صعيد الموسيقا، أن يترك تراثاً مختلفاً ومبدعاً للأحفاد؟.

يمكن للسوريين اليوم إذا ما توافرت لهم الشروط المعروفة لإنتاج الأغنية والموسيقا، أن يفعلوا شيئاً على هذا الصعيد، لكن هذا لن يتطور إلى مستوى البصمة المختلفة التي صنعتها الدراما، وذلك تبعاً لاختلاف شخصية الفن الغنائي الموسيقي، فعلى الأرجح أن نحصل على أغنيات هابطة وطقطوقات لا تختلف عن الشقيقات العربيات اللواتي وقعن في المطب نفسه، ولا يشذ عن ذلك سوى التجربة الرحبانية التي تحتاج إلى دراسة خاصة لأن جملة من الظروف ساعدتها كي تنضج وتغرد بإصرار خارج سرب الوتر الواحد، وإلى جانبها التجربة المصرية التي ظلت تحمل شيئاً من خصوصيتها المحلية برغم كل ما يمكن أن نشير إليه من هشاشة وتسطيح حصل بعد التجارب الشهيرة في بداية ومنتصف القرن الماضي!.
لن تتمكن الموسيقا والأغنية السورية من تقديم شيء مختلف، حتى تعود إلى رشدها، وهذا لن يحصل إلا بالتمرد على نمطية الوتر الواحد في الربابة، والانتصار للغنى والتعدد في القيثارة السورية!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار