حداثة «الدادائية العربية» بنكهة حليب النوق!

البحث في «تحولات» التشكيل السوري، خلال عشر سنوات من الحرب على سورية، يحتاج سبراً بنيوياً مختلفاً عن العادة، فنحن للأسف لم ننجز خلال قرابة مئة عام من الحروب من أجل فلسطين ما يوازي الدادائية والسريالية اللتين انعطفتا بالفنون إثر الحربين العالميتين الأولى والثانية، فالواقع هنا مختلف ومتخلّف عن المرحلة التي كانت تمر بها المجتمعات الغربية بدايات القرن الماضي. صحيح أن هناك مجموعة من الرواد المُحدثين الذين تركوا بصمة مختلفة على صعيد التشكيل السوري والعربي، لكنهم للأسف لم يُحدثوا انعطافاً أو مدرسة مؤثرة في الاتجاهات، ولم يقلبوا الذائقة رأساً على عقب مثلما حدث أثناء الحروب العالمية!
لا نعثر في التشكيل العربي على شخصيات بحجم «هوغو بول» و«إيمي هينينيز» و«ترزتن تزازار» و«سلفادور دالي»، أولئك الذين قالوا في مرحلة ما: «لقد فقدنا الثقة بكل شيء وعلينا أن نبني من جديد»، تواروا لدينا خلف انفعالاتهم الذاتية وتلاشوا بنبلٍ خلف الكواليس، حتى إن بعضهم قضى انتحاراً ولم يتم تقديره إلا بعد سنوات موته.
بشكلٍ ما، كانت نهاية لؤي كيالي المفاجئة رادعاً لكل من يفكر في شقّ عصا الطاعة على الجماليات السائدة، بحيث رزح الفن تحت الكلاسيكيات الواقعية ردحاً طويلاً من الزمن! بالطبع فإن ذلك لا يهدف إلى التخفيف من شأن الرواد والحديثين لكننا نتحدث هناك عن الانعطافات الكبيرة، ولا نعني التجارب الفردية التي توقفت برحيل أصحابها للأسف.
بالمقابل، فإن هزاتٍ مهمة حصلت على صعيد الفنون الأخرى وفي مقدمتها الشعر، لكنها لم تصل إلى التشكيل، ربما لأن الشعر أصبح خلال الألف والأربعمئة عام الماضية «ديوانَ العرب»، فرأينا انقلاباتٍ في كلاسيكيات القصيدة التقليدية، وولادة قصيدة التفعيلة، ولاحقاً النثر.. على صعيد الفكر شهدت المنطقة ولادة أفكار وعقائد جديدة اعتمدت البحث العلمي والتاريخي وتخلت عن العواطف والارتجالات، لكن على صعيد المجتمعات بقيت المشكلة البنيوية هي المسيطرة للأسف وهو ما يسميه أدونيس «سيطرة النقل على العقل».
لا يمكن تبرئة الرقابة المجتمعية والرسمية من مسؤولية تردّي الفنون أو بطئها عن إحداث الانعطافات، كذلك الأحوال الاقتصادية وسيادة ثقافة الاستهلاك التي جعلت الفنانين يخلعون جلدهم كي يرسموا لوحات «بيّاعة» على حساب خصوصيتهم التي ضاعت لقاء تحسين وضعهم الاقتصادي. هناك قبائل كاملة من الفنانين الموظفين في الصالات الباذخة الذين يرسمون ما يطلب منهم كأنهم كاميرات أو أدوات ناسخة، وذلك لقاء رواتب شهرية عالية، رغم أن أكثرهم يمتلك مواهب حقيقية كان يعوّل عليها في قلب المشهد أو إحداث تأثير كبير فيه.
لا يمكن اعتبار رسم مشاهد الحرب على سورية في لوحات فنية، اتجاهاً جديداً في التشكيل، ولا يمكن الركون إلى الانفعالات الآنية إزاء الانفجارات ومشاهد الضحايا التي ملأتها شاشات الأخبار طوال السنوات الماضية، واعتبار كل ذلك فناً متأثراً بالحرب على سورية، فالأسئلة الجوهرية غابت وما سمّاه مؤسسو «الدادائية» بـإعادة البناء لم يحصل لدينا للأسف وذلك لأسباب ذكرنا الكثير منها في البداية، وربما يستطيع مشهد منحوتة الآلهة عشتار في أحد شوارع العاصمة التي دمرها الإرهابيون بذريعة خدشها للحياء العام، توضيح الكثير مما نتحدث عنه هنا، فالمجتمع الذي اخترع أول منحوتة في التاريخ وصوّرَ المعارك الكبرى عبر الرسومات والنُّصب والجداريات في آشور وبابل وإيبلا وأوغاريت، لم يتخلّف عن مواكبة تطور الفنون العالمية مصادفةً، بل أصيبَ بمرض عضال، وللمفارقة أنه يرفض تناول أي جرعات كي يشفى.
بكل بساطة، «الدادائية العربية» المفترضة تريد دخول الحداثة على ظهور النوق، مع حداء العيس، والبكاء على الأطلال!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار