سِرُّ الجَبَّارِين
رغم الاحتلال والاستيطان الاحتلالي والتطهير والاغتيالات الممنهجة والفجور في إعلان ما يسمى «يهودية الدولة» أمام نظر ومسمع العالم والضخ الإعلامي والسياسي المروج للتطبيع المجاني، وتحيّز المجتمع الدولي بمنظماته.. انبعثت فلسطين الحاضرة دائماً من جديد، وعادت تفوح منها رائحة البخور المعطر بالمعجزات والمفعم بالتصميم والصمود والإرادة.. نعم نهضت القضية الفلسطينية اليوم من جديد واحتلت «مانشيتات» الصحف والخبر الأول في كل وسائل الإعلام، وكانت مدار حديث كل اثنين، بفعل إعجازية الشبان الـ6 الذين فروا في السادس من أيلول الجاري من سجن «جلبوع» المعروف بـ«الخزنة» لصرامة الإجراءات الوقائية الأمنية، والمتخم بالمواقع التقنية المحروسة بأسوار الحديد والإسمنت ومئات العناصر والكلاب المدربة تساندها إشعاعات ليزرية فوق الحمراء.. وهذه العملية التي أذهلت القريب والبعيد، القاصي والداني، العدو قبل الصديق، التقني المحترف قبل المواطن العادي.. بل أذهلت مخضرمي السجون الانفرادية، أعادت ثقة المواطن الفلسطيني والعربي بنفسه وبمقدراته وقدرته على تطويع المستحيل وترويض أعتى التكنولوجيات المتطورة.. وفك أخطر “الشيفرات” المعقدة، وإخراسها وقت الضرورة، وصوابية خطه بعد أن أوهنه بعض المتخاذلين وقليل من عربان التطبيع المجاني، وقلة من مشيخات وممالك الرمال.. ها هي أرض فلسطين المقدسة التي كانت مهد الديانات السماوية؛ اليهودية، والمسيحية، ومعراج الرسول العربي.. وبعثت رسائل المحبة والأخوة إلى أصقاع العالم.. اليوم رغم اليأس والخذلان والتطبيع تنير في زمن الظلمة وتبدع وتتفنن بتلقين الدروس كل يوم للكيان الصهيوني وجيشه الذي يدّعي أنه لا يقهر.. لكنه تقهقر أمام شبان عزّل.. سلاحهم ملعقة شاي.. وأمست قبته الحديدية خردة، وأقماره الصناعية و«شاباكه» وجيشه وعتاده وعديده -النظامي والاحتياطي- مسخرة للصهاينة أنفسهم أمام إعجاز “الجبارين” وهم في الأقفاص المحصنة بسبعة أقفال.. فكيف بمن هم خارج الأسوار.
منذ تأكيد خبر الفرار الأسطوري؛ وسائل الإعلام الصهيونية المقروءة والمسموعة والمرئية ومواقع التواصل الاجتماعي تحلل تارة، وتسخر تارة أخرى من سجن جلبوع المعروف بـ«صندوق خزنة» التي استهلكت كل غرفة فيه 66 طناً من الإسمنت ومثلها من الحديد مقابل 26 طناً في غرف السجون الصهيونية الأخرى.. وقيل بعد افتتاحه إن اختراقه أصعب بكثير من النيل من صناديق الخزانة في بنك «إسرائيل»، وتفتح هذه الصناديق من خلال نظام تحكم إلكتروني مركزي بكلمة سر تتغير كل يوم.. وأحدث وأخطر هذه «المسخرات» الذي جاء برسم كاريكاتير لرئيس الكيان الصهيوني نفتالي بينيت وهو رافع يديه أمام «الكنيست» حمداً وشكراناً أن نفق الحرية الذي حفره الأبطال الفلسطينيون الـ6 لم يتم في عهده بل في عهد غريمه نتنياهو.. ما زاد الطين بلة في الشارع الصهيوني، ذهوله من كثرة التفسيرات والتأويلات والاحتمالات.. وهل فعلاً بدأ الحفر قبل عام.. أم ثلاثة أيام فقط، وأنه جرى في ساعات النهار فقط وبتقنيات حديثة ومتقدمة لحفر الأنفاق؟.. وهل فعلاً كانت السجّانة نائمة في برج الحراسة.. أم ادّعت النوم؟.. أم لم يكن هناك حارس أصلاً في البرج المشرف على فتحة الفرار؟.. أم إن الحفر بدأ من تحت المغسلة باتجاه الخارج، أم إن النفق حُفر عكسياً؟ أي إنه بدأ من مخزن زراعي في أرض تابعة لإحدى قرى مرج ابن عامر وانتهى في «الخزنة»؟ والحفر تم بعتاد فلسطيني مخترع مؤخراً وليس بملعقة أو سكين أو فرشاة أسنان أو موسى حلاقة أو برغي؟.. وهل يحفر نفق بطول /25/ متراً وبعمق /3/ أمتار في واحد من أكثر السجون حراسة سواء بعام أو بـ3 أيام من دون الإحساس بذلك، أم إن هناك محترفين فلسطينيين تحكموا بالشبكة والكاميرات في داخل السجن وبكاميرات المراقبة وثبتوا عليها مناظر ثابتة كل فترة الحفر والفرار؟.
المؤكد أن جيش الاحتلال بجناحيه النظامي والاحتياطي وأجهزة استخباراته وعلى رأسها مخابرات الاحتلال «الشاباك» الذي يرى نفسه أنه الأفضل والأخطر وعلو كعبه على مستوى العالم.
هم في حالة ذهول.. ومسخرة في الوقت ذاته، لأن سمعتهم على المحك داخلياً وخارجياً.. أياً كانت الطريقة التي فرَّ بها الأبطال الستة فقد كسروا أسطورة العدو ومرّغوا كرامة الكيان الصهيوني وجيشه -الذي يدّعي أنه الأقوى في المنطقة- في تراب النفق.. وأُسقطت أسطورة الاحتلال بملعقة شاي.
فقد أسقطت المنظومة الأمنية الصهيونية المتعجرفة بالضربة القاضية ومرّغت كرامة جيش الاحتلال بتراب «الخزنة» المفقود حتى الساعة.
لاشكّ أن النفق حفر وشماً على جبين «إسرائيل» المتغطرسة وسيبقى شاهداً تتناقله حكايات الجدات على مرّ العصور والدهور.
خلاصة القول: نعم، الفلسطينيون اليوم عبر مقاومتهم الشامخة يسطرون صفحات أخرى خالدة في سجل تاريخ مخضب بالدم مطرز بالصبر والتصدي والتحدي.. وخلق المستحيل من المستحيل.. اليوم يسطر الفلسطينيون صفحات مشرقة أخرى في سفر المقاومة.. قد يكون هناك احتمال وقوع الشبان الـ6 بالأسر من جديد بعد أن أُسر أربعة منهم، ليس بقدرة الصهاينة وإنما بخيانة البعض.. وقد ينال بعضهم الشهادة.. ولكن الرسالة وصلت وفهمت وختمت على جبين الكيان الصهيوني من جهة، ومن جهة أخرى على جبين بعض العربان والمشيخات الذين يدّعون العروبة وحماية الإسلام، أمام إعجازية هؤلاء الشبان الذين أذهلوا الدنيا، وفرضوا على كل الكليات العسكرية والمؤسسات التعليمية الاستخبارية في العالم بصمتهم التي سوف تُدرّس في أعظم جامعات العالم.. وسوف تكون في الوقت ذاته ملهمة لكبار الممثلين والمخرجين العالميين في قادم الأيام.. والأهم أعطوا درساً للكيان الصهيوني وأجهزته بأن المقاومين الجبارين لا ينامون على ضيم مهما كانت الصعوبات.. ولا مستحيل أمامهم، بل هم صُنّاع المستحيل وخلق المعجزات.. فتحية للأبطال الذين كسروا هيبة سجون الاحتلال ودوخوا “شاباكهم” وأذلّوا غطرسة الاحتلال وأبطلوا تكنولوجيتهم المزيفة.. وأعادوا النظر بعقود شراء الأسلحة من الكيان.. وأوصلوا رسالة خالدة بأن الأرض لا تخون أهلها.. فكانت طيّعة لأظافرهم في الليل وستراً في النهار.. رغم وجود الخَوَنة.