هل سمعتَ «دفءَ نحيبِ الغصون».. يا فايز؟
أسوأ النصوص، كتاباتُ الرثاء!. تلك العباراتُ التي تأخذ شكل الكفّارات أحياناً أو الإضاءات المتأخرة وردّ الاعتبار، لا تبدو مقنعةً أمام هول الرحيل.. نعم، ماتَ أبو آداد بكامل فجائيته وفجائعيته.. تلك القصيدة الحادة المسنونة كالرمح، والمتمردةُ حدَّ الشقاق.. كان عليها أن ترتاح بعدما ثقُل الحملُ وباتت الكلمات تنوءُ بصخور سيزيف المحمولة بشكل طوعي نحو القمم.. «في البدء كان الوطن» يقول فايز، وفي النهاية كان الوطن، فعلى أيّ من جانبيكَ تميلُ يا صاحب «قداس الهلاك»؟.. و«ستائرُ الأيام الرجيمة» غطت الأفق الذي حلمت يوماً بافتتاضه كي تظهر الشمس من وراء الغيم؟ أعرف أنك ستضحك وتحيلنا إلى قصيدة «المطر الأسود»، يا صاحب الحلم السوريّ الذي ما بطَّل يطرق بإلحاحٍ معاجم اليأس ويستولد الكلمات بهيةً جديدةً كأنه يعيد نحت المفردات.. نعم، لقد أكملت حلمك الشعريّ منذ أن كتبتَ «هذا الشعر كيف؟»، تلك القصيدة المفعّلة التي حبت على طريق السياب ونازك الملائكة، أصررت أن تشب عن الطوق في تقطيعات كنت حكيمها وشيخها الجليل.. تُرى كم علينا أن ننبش في اللغة كي نحصل على عبارات توازي هذا الرحيل وتليق به؟.
نعم، مات فايز خضّور، وكان يضحك كثيراً كلما سألته لماذا لا يحوّلون «مشروع دمر» إلى بحيرة من النبيذ؟ الآن أصبحت دمّر بركة من الدموع رغم أنك ترفض النحيب بهذا الشكل.. فايز الذي لم يضيّع البوصلة ولم تُغْرِه إيماءات العبور خارج دمشق، كان عليه في كل مرة أن يكون جسراً، في ديوانه «آداد»، وقلقاً لا ينام في «الظل وحارس والمقبرة»، ويانعاً متجدداً في «عشبها من ذهب!». ألم تقل يوماً إن «الرصاص لا يحب المبيت باكراً».. فلماذا الآن استسلمت للنوم، وتركتنا وحيدين ننتظر نضوج «ثمار الجليد»؟.
فايز خضور (1942 – 2021)، حائز على جائزة الدولة التقديرية عام 2012، له أكثر من عشرين ديواناً شعرياً، صدرت مؤخراً في جزأين من الأعمال الكاملة عن دار دلمون بدمشق.. صاحب معجم خاص ومتفرد، اشتغل على تجديد قصيدة التفعيلة وقسّمها وفق سطور وخواتيم شرحها بشكل وافٍ ضمن كتابه النثري «فضاء الوجه الآخر».. رغم معارضته لتسمية «قصيدة النثر» إلا أنه لم يسقط الشعرية عنها، اشتهر بحرفيته اللغوية وقال عنه الشاعر جوزيف حرب إنه «الشاعر الأمهر».. يصفه البعض بالفجائعي نظراً للهمّ الوطني الذي رافق نصه طوال تجربته التي بدأت الخمسينيات واختتمت برحيله اليوم.. شاعر قصيدة المضمون والشكل، حتى في طغيان الهمّ الذاتي، اشتغل على الإسقاطات والأسطورة وطرق الأمداء البعيدة.
هل سمعتَ دفءَ نحيب الغصون.. وهي تبكيكَ الآن يا فايز؟.