ساقية قصائد.. على واجهة موحشة!
ضفّتان تتنازعان الشعر في مدينة الماغوط، الأولى تتبنّى قصيدة السهل الممتنع، والأخرى جوّانية ذكية ملأى بالرموز، وبرغم أن نصوص الضفتين تحاول الإدهاش في التصوير كقاسم مشترك، إلا أن الأولى تظهر صادمةً تبعاً لواقعيتها المفاجئة والتقاطها المشاهد غير المنتظرة، أما الثانية فتحفر في العمق انسجاماً مع التركيبة الفلسفية التي تطبع المنطقة.. صحيح أن هذه المدينة اقترنت كثيراً بأسلوبية شيخ قصيدة النثر، المنتمي إلى الضفة الأولى، إلا أن هذا الاقتران لم يكن نقدياً بل ساهمت فيه عوامل شتّى أدت إلى غمر شعراء الضفة الثانية إلى جانب شعراء الضفاف الهامشية التي نشأت لاحقاً بعامل انخفاض منسوب الماء في هذا النهر ومروره أحياناً بفترات طويلة من الجفاف.. وتبعاً لذلك يمكن القول إنها مدينة فايز خضور واسماعيل عامود وأحمد خنسا وخضر عكاري ومنذر شيحاوي وغيرهم كثير من الضفاف التي أنبتت عشبها البريّ بخصوصية ربما لم تصلنا بالشكل الكافي انسجاماً مع كمية الماء التي كانت تصل إلى كل منها في كل مرحلة، ونقصد بكمية الماء هنا عوامل الشهرة وإشهار التجارب وحسن وصولها إلى الآخرين مع تفاصيل دعم أخرى!.
في أحد الملتقيات الأدبية التي تستضيفها المدن السورية، قال أحد الحضور الشعراء بعد الاستماع إلى قصائد المشاركين من مدينة سلمية، إن هذا الشعر لا يعبر حقيقة عن الحركة الشعرية في تلك المنطقة نظراً لسطحيته وهُزاله، وقد استغرب الشاعر صاحب المداخلة، وجود تلك الهشاشة في مدينة تغتذي بالشعر وينبت في أديمها الشعراء بالفطرة!. في الحقيقة، كان ذلك يؤكد ما ذهبنا إليه عندما تحدثنا عن ضفاف الشعر في تلك المدينة، فهذه التجارب ربما كانت تنتمي إلى الضفاف الهشة التي لم يصلها الماء الكافي، ونقصد بالماء الكافي عدم ارتواء الخبرات وقلة الاغتذاء بالفيتامينات التي أدت إلى عدم تبلور النصوص!.
قد يبدو هذا التمهيد مملاً بعض الشيء، لكنه ضروري للإحاطة بالتجارب الجديدة في هذه المدينة، خاصة عند صدور المنشور الأول الذي يبدو وكأنه يتلمّس وجه الماء قبل أن يختارَ الضفةَ أو تختارُه الضفةُ.. فما فعلته الشاعرة ريجينا ملوك في كتابها الأول «تارةً خلف قلبي، وتارةً إليك»، يذهب في هذا المنحى ويؤكد الإلحاح النقدي في كتابة الشعر، فهي تغزّ السباحة باتجاه الضفة الثانية، لكن تتنازعها جاذبية الضفة الأولى، كما أنها لا تنجو من شوائب الضفاف الهامشية التي تحدثنا عنها، وهذا يبدو طبيعياً في جميع التجارب الجديدة، لكن ريجينا تبدو صاحبة صوت خاص ومختلف في خطوتها الأولى، وهذا ما يجعلها في منجاة من ضفاف الفورات الشعرية لأن البذور الغضّة التي تملأ هذا الكتاب لابد سوف تنبت بعد حين، مثل شتلات العدس التي زرعتها ريجينا في الحقول المجدبة عندما أعدّت مشروع الماجستير في الهندسة الزراعية!. منذ البداية، تبدو تجربة ريجينا ملوك ناتئة واضحة المعالم فوق سطوح الاستسهال الشعري المعمّم بفعل التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي وغياب النقد، إلى درجة أن القارىء المهتم يستطيع تلمّس البذور الإبداعية المنثورة في القصائد، كأن ريجينا حوّلت نصوصها إلى حقول، بشكل يشبه تعاملها مع الأرض البكر أثناء الزراعة، والمؤكد أن هذا التماهي مع الذات أبعدها عن التصنع وجعلها تشبه نفسها قبل كل شيء!.
نهر الصور في كتاب «تارةً خلف قلبي، وتارةً إليك»، يجري بزخم، فالصورة كما أراها نقدياً هي المقياس الأهم في سبر القصائد ورفع مستواها وإنقاذها من الوقوع في مطب القصيدة – الفكرة، فالغريب الذي قرع باب ريجينا، «أهدى إليها الدموع على هيئة فستان»، فكيف تمكّن هذا الغريب من الوصول (من دلّه على الطريقة السهلة لدخول جثتي؟ من قال له إنّ المرآة وحيدة؟ ليجلس أمامها كأنه آخر قبر في هذا العام؟).
«الدوار في رأسي.. ساقية رخام» ولن نستغرب إذا ذهبت في التصوير أكثر لتقول: «سأجعل من وجهي وليمة للغرباء»، لكنها لا تضيّع الطريق ففي «يدي خطوط تدل الغرباء على مكاني.. تعيدني إلى حوض السمك.. كأنني ذاكرة تتسع ثقوبها كزورق حزين.. واجهة تقذف الدمى عن رفوفها.. وتبقى فارغة!».. ريجينا في نهر الصور هذا، لا تشبه إلا ذاتها، فهي ليست خصبة في إنبات المقارنات وجمع المتناقضات فقط، بل ماهرة أيضاً في التعامل مع اللغة المشذبة غير المحشوة بالشوائب التي تعكر صفو النص وتأخذه إلى غير منحاه!.
اخترت الحديث عن الصورة بشكل جوهري لأنها أساس النص هنا، لكن هذه الصورة ليست من النوع السهل البسيط الذي يمكن العثور عليه في المحيط، بل هي منبوشة بشكل مدروس لأنها ذكية عميقة وتحتاج إلى تفسير.. (ينجو الوقتُ من مروري في ساعة الكون.. كأن عقارب رأسي تعويذة لما مضى!)..
قلنا سابقاً، إن نصوص ريجينا ملأى بالبذور الإبداعية، لكن بعضها لم “ينتش”ِ بالشكل الكافي بعد، وهذا يفسر حجم التجزيء في النص الواحد ليصبح مجموعة من الصور المتدفقة التي تحتاج إلى ناظم ورابط كي تنتمي إلى بنية واحدة.. هذه الملاحظة طبيعية في التجارب الأولى، وهي تتصل مباشرة برؤية تقسيم نهر الشعر إلى ضفاف تحدثنا عنها سابقاً، فاختيار الضفة لن يكون سهلاً على التجارب الجديدة لكنه أمر حاسم في إعطاء الهوية وترك البصمة المتفردة في بنية القصيدة وشكلها..
في كتاب «تارةً خلف قلبي، وتارةً إليك»، هناك منجز مختلف يتلمس طريقه بثقة ولا يشاء أن ينتمي إلى الهشاشة وقصائد الحطام التي تطبع المشهد الشعري اليوم، إنها تلك البذور التي نثرتها ريجينا بين النصوص عندما حولت القصائد إلى حقول تزرع فيها شتلات الصور والكلمات، في أرضٍ طالما عانت من القحط!. إنه ساقية قصائد.. على واجهةٍ موحشة!.
الكتاب: «تارةً خلف قلبي، وتارةً إليك»
شعر_ ريجينا ملوك
دار الفارابي – بيروت