أكثم عبد الحميد في صالة تجليات عندما تبتهج العين.. ويمتلىء الذهن!
كثيراً ما تُطرح هموم النحت السوري ومدى تمكنه من رسم خصوصيته المختلفة عن بقية الثقافات، فالمنطقة التي نحتت أول تمثال في التاريخ واخترعت أول حرف وزرعت أول حبة قمح، غزاها التقليد مرةً بحجة التجريد ومرات بتبرير ذاتية الفنان الشخصية في النظر إلى العالم، فكانت محصلة الكثير من النحت مجرد استنساخ عن التجارب الغربية لأن المحلية تغيب عنه بشكل شبه كامل!.. هذه الأسئلة النقدية والإبداعية تحضر بقوة في معرض الفنان النحات أكثم عبد الحميد (1955)، المقام حالياً في صالة تجليات بدمشق، والذي يرتكز إلى فكرة فحواها يقول: إن المسألة النحتية ليست تقنية تتعلق بصياغة ملامح الكتلة الصماء فقط، بل بنيوية تتعلق بالمضمون الجمالي الذي تصوره تلك الكتلة وماهية الذائقة التي تصورها، وإلى أي حد يمكن أن نعثر على الفرادة وعدم الانقياد للآخر في هذه الأعمال وأين يمكن أن نعثر فيها على ذواتنا التي نجهل جمالياتها الفنية لأسباب شتى؟.
في بداية الثمانينيات، قرر أكثم عبد الحميد ورفيقه محمد بعجانو الخروج من النحت الأكاديمي الذي يدرّس في الجامعات ويركز على النماذج الرومانية والأوروبية ونسب قياستها، فعادا إلى الأسطورة السورية القديمة وزارا المتاحف والأماكن الأثرية وعلى رأسها تدمر، لتتوج تلك الرحلة بمعرض أقيم في بداية الثمانينيات حمل عنوان «النحت والأسطورة».. هذا ما عنيناه بالمحتوى البنيوي للنحت في تجربة أكثم عبد الحميد، التي وإن كانت تستند إلى مهارات فائقة في رسم الملامح الجديدة للكتلة الصماء، فهي في الوقت نفسه تسبر بعمق وتغوص كي تصنع جسراً مع الذائقة السورية التي يمتد عمر النحت فيها آلاف السنين، ليتكامل هذا الاتجاه مع ما بدأه شيخ النحاتين السوريين الراحل سعيد مخلوف .
يقول أكثم، تحسّسوا المنحوتة بأصابعكم إذا أحببتم أن تشعروا بها وتفهّموها!. فتلك التفاصيل المنقوشة على الحجر بأناة وصبر أو المحفورة على خشب الزيتون بدراية وحب، يمكنها أن تشعر تبعاً للجمال الذي تحمله، وهكذا يمكن أن يصل المعنى مع جماليات الشكل.. هكذا يخرج أكثم من النمطية غير المفهومة في النحت إلى تبني الاتجاه الجمالي المعرفي في آن واحد، فالأم الأولى عشتار تحضر بقوة في جذوع الزيتون التي تعامل معها الفنان، كذلك الأمر بالنسبة لوجوه البشر التعبيرية التي غيّر في أشكالها كي يخطر من الإطار المحدود كأنه يصور أناساً حديثين يشبهوننا جميعاً.. أجساداً ملتفة متواشجة وأماً حاضنة تحتويها ثم رؤوساً بانبعاثات تشبه الجذور الصاعدة إلى أعلى أو ربما هي أفكار تتحول أحياناً إلى بشر يخرجون من الرأس، فالمنحوتة تَشي بحال الفنان الشعورية والأفكار التي تنتابه حيث مرة يكون هادئاً في انحناءاته منساقاً مع الجماليات البصرية ومرات أخرى يكون انفعالياً متشابك الأفكار مزدحماً بالأشكال والرؤى والأفكار.. هذه التعددية أخرجت أعمال أكثم من النمطية كما أسلفنا، رغم أننا نستطيع اكتشاف الأعمال التي نحتها بمجرد النظر إليها في أي مكان، فهو عبر تجربته الطويلة تمكن من ملامح مختلفة لأسلوبه، وكلما مضى وقت أطول ظهرت مهاراته ومراميه حيث علينا أن ننظر إلى ما خلف الكتلة النحتية لنرى ماذا يريد أن يقول أكثم!.
يقسم الفنان أكثم عبد الحميد وجوه منحوتاته إلى نصفين، فيجعل التآلف بينها عبر الزاوية البصرية، أو إنه يلاصقهما كي يبدو الوجهان ملتقيين في الرؤية والجسد.. الدلالات التعبيرية التي يمكن استنتاجها من الأعمال كثيرة، وإذا قلنا إن المرأة هي سيدة الأعمال من دون منازع، فهي المرأة الأم الأسطورة التي تحدثنا عنها في البداية، إنها عشتار ومن يدور في فلكها من أمهات وسيدات جميلات وساهمات أو متأملات ومفكرات..
استخدم أكثم في منحوتاته الخشب والرخام والبرونز والبازلت، ومن خلال معالجته لكل مادة بما يناسبها، قدم لنا صورة عن الأسرة السورية بمختلف حالاتها، جاعلاً التركيز على الانتماء هدفه الأول لأنه النسيج الذي يشكل صمام الأمان للفرد والجماعة معاً.. كما حملت الوجوه التعبيرية بأشكالها المختلفة المسطحة والدائرية والشاغلة الفراغ بجمالياتها، إشارة إلى المعاني التي ينطوي عليها كل وجه، فالفنان جهد من أجل تصوير الحالات الكامنة خلف الوجوه من أجل إيصال الفكرة عبر جماليات نحتها على المواد القاسية..
إذا ما عدنا إلى نصيحة الفنان أكثم عبد الحميد حول ضرورة تحسّس المنحوتة كمقدمة للتواصل معها بشكل صحيح، فإن الأصابع الملامسة لخشب الزيتون أو المنزلقة على نعومة الرخام والبازلت، تستطيع أن تفهم هي الأخرى لأنها تلمس الأفكار التي نحتها أكثم بهدوء كي يترك أثراً في الذهن والروح.. هنا العين تبتهج بقدر ما يغتني العقل!.
ت: طارق الحسنية