الكتابة بالطاقة البديلة للّغة والفكر والشعور ..!
«القطب متجمّدٌ بكأس .. والجسدُ لترُ سهادٍ بين الدببة!» .. سيبدو هذا المقطع للشاعر أسعد الجبوري غريباً بسرياليته ومقاربته اللغوية للصورة، إذا ما قارنّاه بالموجات الدارجة حديثاً من الكتابة السردية التي تكاد تغرق في الكلام العادي عن يوميات الكاتب وانطباعاته ولا نعثر فيها على كمّ يكفي من الدهشة!
يقول الجبوري إن الكتابة الآن لابد من أن تتجه إلى «الطاقة البديلة للغة الأم»، والواضح نقدياً أن الشعر يراوح مكانه منذ عقود حتى تشابهت النصوص وباتت تشعرنا بأن الكاتب واحدٌ رغم تعدد الشعراء!.
لماذا نعثر اليوم على ضفاف متناقضة في الكتابة، بعضها يذهب باتجاه الغموض واستخدام المفردات في غير معانيها المعتادة والمألوفة وبالتالي تحصد كمّاً أكبر من الدهشة، وبعضها الآخر يغرق في العادي والمألوف مع بعض اللمعات النادرة التي تزين النصّ؟ وهذا الأمر متعلق بالكتّاب الشباب على نحو خاص، عدا عن ضفاف تتعلق بكتابة «الهايكو» والنصوص القصيرة وأخرى متمسكة بقصيدة التفعيلة والشعر العمودي القديم. بالطبع، فإن المقصود من تلك المقاربات الإبداعية، هو محاولة تفكيكها نقدياً من أجل استشراف المراحل القادمة المحتملة التي يمكن أن تسلكها القصيدة العربية بشكل عام.
هل لهذا علاقة بالظروف التي تعيشها المجتمعات العربية والحروب التي شُنت عليها إلى جانب الظروف الاقتصادية والمواقف الثقافية التي تمخضت عن هذا الوضع؟ ربما تفيدنا العودة إلى تاريخ نشوء المدارس الأدبية الكبرى في الفنون في كشف المحركات الكامنة وراء تعدد الضفاف والروافد والانشقاقات الأدبية عن النهر الكلاسيكي القديم التي حفظ الناس عن ظهر قلب، خطَّ سيره باتجاه المصبّ! تلك المدارس ارتبطت بانعطافات وأحداث تاريخية كبرى وكانت بمنزلة الخلاصات إلى جانب كونها حملت الكثير من الاستشرافات.
بالعودة إلى تجربة شعرية سردية للشاعر منذر مصري، سنجد مسوغاً فكرياً لهذا الاتجاه، يقول منذر: «سئمت العجائبي والغرائبي في الشعر.. سئمت الادعاءات البطولية أو عكسها، أقصد كجلَد الذات والادعاء بالضحية.. سئمت تشبيه فلسطين بامرأة عربية مغتصبة… إلخ.. سئمت ادعاء الشاعر أنه مخلوق استثنائي.. شاذ.. مريض.. نعم هذا يطابق موقفي الثقافي أنني أردت أن أكتب للناس العاديين بمشاعر إنسان منهم ويشبههم.. لكن هذا أيضاً كان يلائم شخصيتي بلا ريب، وكان عفوياً من باب أنني أصدقه ولا أفتعله افتعالاً.. لأنني أولاً وأخيراً كنت أرى أن الافتعال أكثر ما يضر بالفن، وأنه يجب أن يبتعد عنه كل شاعر حقيقي. مردداً: علينا أن نبعد الكذب عن الشعر كما نبعده عن الحياة..». هذا الرأي يؤكد حالة السأم من النمطية الخطابية التي جعلت الشاعر الكلاسيكي مجرد صانع كلام وناظم لأفكار وأيديولوجيات فشلت بشكل ذريع في المجتمعات العربية، هذا من جهة، إضافة إلى أن الذائقة بدأت منذ منتصف القرن الماضي تتململ وتتثاءب من كثرة التكرار في العبارات والقوافي والأوزان، الأمر الذي جعل التغيير ضرورة ثقافية خاصة عندما تتغير الأفكار فإن هذا التغيير لابد من أن يطول الأساليب، لكن القضية الجوهرية المرادة هنا تتعلق بماهية هذا التغيير هل هو باتجاه العادي والمألوف أم باتجاه خيارات أخرى تتعلق بجوهر استخدام اللغة والصورة والبحث عن مآلات نافرة وغير متوقعة للنص بشكل عام.
يقول أسعد الجبوري: «بعد أن تذهب أنتَ.. سيحرقُ اللبلابُ ثيابهُ مع الشفاه.. ثم يمضي النبيذُ متجهماً..
ليس كلّ امرأةٍ تقطعُ العينَ.. يَدّقُ لها جرسُ الإنذارِ في الحواسّ».
الاستخدام المختلف للغة واحتمالات المعاني هنا، سيدفع القارئ للتفكير ملياً باللبلاب الذي سيحرق ثيابه وسيتساءل لماذا مع الشفاه؟ وسيقول أيضاً هل هناك نبيذٌ متجهمٌ فعلاً؟ أعتقد أن المنحى السريالي هنا يحتمل هذا النوع من المقاربات حتى إن ظهرت إشكالية في المعاني، لأنها محرّضة للغة والمخيلة معاً، وربما تدفع القارىء والكاتب إلى بذل الجهد بشكل أكبر لنبش اللغة وتوظيفها في مهمات لا نتوقعها.
من جانب آخر، وتحت المسوغات التي ذكرها منذر مصري سابقاً، سيبدو النص السردي قصدياً من أجل الخروج من البحيرة التقليدية الراكدة والساكنة، لكن نحو اتجاه مختلف عن المنحى السريالي الغرائبي الذي ذهب إليه الجبوري، وتلك مسألة ترتبط على الأرض بماهية التجربة الفردية لكل شاعر والخلاصات الفكرية والشعورية التي تقف خلف نصوصه بشكل عام.
يقول منذر: «أنتَ، عرَفتُكَ من وَقعِ خُطاك، الذي يُشبِهُ وَقعَ خُطا امرأةٍ مسرعة، إلاّ أنَّ امرأةً مسرعةً عبَرَت، من دونَ أن تنظُرَ إليّ، بعدَها بلحظةٍ فوجِئتَ بكَ تقِفُ أمامي».. في هذا المقطع يظهر مصري المنحاز إلى السرد والميّال بطبيعته إلى الكتابة السردية التي يقول إنها أكثر صدقاً وواقعية من التكلف بالصور.
يقول الناقد خزعل الماجدي: «ما يخافُ منه شعراء الحداثة يلجُهُ أسعد الجبوري بقوةٍ وتحدٍّ، فهو لا يرى أن هناك مفردات شعرية وأخرى غير شعرية ولذلك يستعمل كلّ هذه المفردات من دون أدنى انحياز لبعضها ليجعلنا أمام مشاهد متتابعةٍ حيّةٍ..» هكذا يبدو اقتحام اللغة أو كما يقول أدونيس تفجير اللغة، ضرورة إبداعية من أجل الانزياح عن النسق المعروف في الكتابة وهي مسألة مفتوحة الاحتمالات مادامت النتائج النهائية لم تتبلور بالشكل الكافي بعد.. يقول الجبوري:
«هو البُسْتانيُّ العارِفُ بحديقةِ الأبد..
ولوحدهِ الزمنُ يعودُ للوراء..
وهي التفاحةُ الثملةُ بغابة النصوص،
وبحبرِها تفيضُ المصابيحُ»
لا يختلف أحد حول مشروعية التجريب والبحث عن أدوات وأفكار جديدة في الكتابة، فالمشكلة لا تكمن في الأساليب فحسب بل تصل إلى العناوين أيضاً، خاصة بالنسبة للمجتمعات العربية التي تعثرت مشاريع الإصلاح لديها ومازالت تمتلك الكثير من الأسئلة المؤجّلة غير المحسومة على صعيد الفكر والتفكير الفلسفي. القصيدة العربية لا تبدو مفصولة عن كل ذلك، ومن يدري ربما تفتتح الكتابة الشعرية أفقاً مختلفاً للعقل والمخيلة التي استكانت منذ زمن طويل.