«الدكنجي الغشاش»

«دروس الماضي» من لم يتعلم منها لن يكون منتجاً أو ناجحاً في حياة اجتماعية أو مهنية قط.. لذلك -ومع كثرة معاناتي الحداثية في استرجاع السابق من ذاكرتي- إلا أن شيئاً منها بمقام الدروس والموعظة لم ولن تستطيع محوها تداعيات التقدم في العمر وإسقاطات الحرب النفسية على صحتنا الجسدية وذاكرة الأمس.. وعلى سبيل المثال حادثة جرت بين جدي وخالي الكبير عباس وأنا بينهما طفلة صغيرة تسمع الشجار المبتدئ بآيات من الذكر الحكيم، فحواها(الميزان) ونهي رب السموات لعباده في أكثر من آية وفي أكثر من سور التلاعب بالكيل والميزان, وهذه الآيات كانت حجة جدي وتبريره سبب المشاجرة بينه وبين جاره صاحب الدكان, مشاجرة كادت تودي بأحدهم لقسم الشرطة والآخر للإسعاف.
والقصة باختصار اكتشاف جدي أن جاره بياع(الفراريج) أضاف حجراً إلى كيلو الميزان-بشكله الحديدي أيام زمان- ما جعله يستشيط غضباً ويشتمه بعبارة« أنت لا تخاف الله»
شتيمة كادت أن توصل جدي للمستشفى بعد أن تحمس البائع الغشاش بوجه الشتيمة وحمل الكيلو المغشوش ليدق به رأس جدي العجوز لولا تدخل الجيران.
الدرس في الحكايا لا يكمن بالواقعة في حد ذاتها وإنما بتداعياتها واختلاف وجهات النظر حولها ومع أي فريق سيكون الصواب؟؟
مع رأي جدي وعناده بأنه على حق, أم مع خالي المسالم لدرجة التشبث بالسلم حد العناد ورأيه مبني على قاعدة(حرية الاختيار) من حق البائع أن يكون بائعاً صالحاً أو أن يكون (غشاشاً), ومن حقك كزبون أن تختار الدكان(!)
عائلة جدي الكبيرة ١١ ما بين ذكور وإناث, إضافة للأصهرة والكنات استسلموا لفكرة الحياد ولم يعبروا بصريح الموقف عن اصطفافهم وتحزبهم لأي من الثقافات, فأمام ثقافة جدي وحجته يجدونه على حق وأمام الخال بكر العائلة المثقف (الفهمان) وطرحه يجدونه على صواب.
أنا يومها كنت صغيرة ومتعلقة جداً بخالي ودرجة ثقافته العالية وأخلاقه الكريمة أيضاً لأن الحياد -بقصتنا- لا يعني أبداً قلة دين أو قلة أخلاق أو استسلام, الحياد أن تترك كل إناء ينضح بما فيه, فالصالح تتحدث عنه أعماله والطالح تخبر يداه عما اقترفتا.
رغم إعجابي الكبير بخالي وأفكاره الحداثية المعجونة بطين وعادات الضيعة إلا أنني تعصبت يومها لجدي، جدي الذي تعلم القراءة والكتابة في الكُتّابْ وكان يقرأ القرآن كما يعرف فيكسر الـ هو بياء ويقول: هُوَي الَّذِي…
قراءة ما سمعت أجمل منها وأنا صغيرة شبه غافية تستيقظ مني فجراً أذناي لتسمعا جدي يرتل القرآن وأنفي الذي يشم رائحة ولا أطيب لزوادته فتنتشلني حواسي الخمسة من فراشي لأقبل يديه.
كبرت ومات جدي .. وفي جسدي جينات مختلطة تدرك تماماً متى يكون التعصب لفكرة قراراً ومتى يكون الحياد اختياراً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار