إعادةُ هيكلةٍ معنويةٍ

أخطرُ ما في الأزماتِ وتبعاتها وما يليها، هو التماهي معها وإدمانُ الدورانِ في دواماتها، تماماً كما الإصرارُ في بداياتها على الاستسلامِ لما قبلها والتعلّقِ بتوالي الاستقرارِ والبحبوحةِ، وهذا خللٌ بنيويٌ مقلقٌ يعصفُُ عادةً بالمجتمعات التي تعتريها رضوضٌ وخضّات كالتي اعترتنا نحن السوريينَ طيلة سنواتِ الحرب البغيضةِ وطقوس الحصار الخانق وسلسلة التحديات التي سميناها باختصار”أزمة”.

وهذا ما يمكن أن ننسبهُ إلى بطء الاستجابة.. أو قلّة المرونة في التقاط خصائص الظرف والتعايش مع الراهن بديناميكية ورشاقة.
يبدو طرحنا فلسفياً إلى حدّ ما، لكنها مقدمةٌ وجدناها الأنسبَ لطرح لمشكلة معقدةٍ تواجهنا اليوم ونحن نتحضّرُ لاستئنافِ مختلفِ أنواع النشاط الاقتصادي بطيفه ومتعلقاته الواسعة، وهي حالة الإحباط التي تغلّفُ تعاطي بعضنا مع يومياته وأعماله.. وحتى طموحاته المشروعة، إن على المستوى الفردي أو المؤسساتي.
وتتجلّى هذه المشكلة في الجنوح المريب نحو إنتاج الذرائع بدلاّ من المبادرات، والاستسلام لنظريات طارئة تُسفّهُ كلّ فكرةٍ إيجابيةٍ حتى وهي حبيسةُ ذهن صاحبها.
مقلقةٌ بالفعل الحالةُ والحلّةُ التي تم الخروج بها من معمعةِ الحرب متعددةِ الأشكال، والاستسلام الكئيب.. بل والتمسّك بالصورة النمطية الحالكة لذروة الأزمة، لأننا على بوابة استحقاقات لا ترحم تتطلب قدراً عالياً من الإرادة و الإصرار على فرض قيمٍ مضافةٍ فكريةٍ وسلوكيةٍ وإنتاجية.. وحتى وجدانية في العلاقة مع كل ما له علاقة بالمستقبل، ولا ندري – بالفعل لا ندري-  كيف لكل مسكونٍ بالإحباط، وكل من يوزعه – عفواً أو قصداً- أن يتجاهل حقيقة أننا انتصرنا في الجولة الأخطر من حرب كانت حربَ وجودٍ بكل معنى ودلالة المصطلح.
في حقائق السيكولوجيا ما يُخطرنا بأن القلقَ يضيّق ساحات الشعور والإدراك، ويحجب الرؤية ويشتتها ويحُول دون التقاط الفرص مهما كانت ماثلة وواضحة، فإشاعة اليأس حين تكون منظمة وممنهجة، تمسي فصلاً خطيراً من فصول الحروب الحديثة، أي يتحول الفرد إلى عدو لذاته قبل كل شيء، تماماً كما الفيروسات المصنعة التي تخدع الجهاز المناعي للإنسان وتعكس وظيفته الحيوية من الدفاع إلى الهجوم ليتكفل بقتل صاحبه..
وأغلبُ الظنّ أن النظرة قصيرة المدى، والاسترخاء لحالة التلقّي السلبي لضخ المعطيات الكثيف، والردح المفتعل دون محاكمة، هما البوابة الأوسع لتدفق الهواجس وتفاعلها واستحكامها بمن يُشرعُ لها الأبوابَ لمجرّد أنها تناغي مشاعرَ أنتجتها الضائقةُ والظروفُ الصعبة.. لكن ماذا عن الرؤية المتوسطة والأفق الجديد.. بل ماذا عن الوقائع المختلفة التي تفرض نفسها بقوة وسط زحام “القصف الإعلامي” المنظم الذي يجري على بلدنا كورقة أخيرة مطروحة حالياً للتجريب؟
النظرة الأبعد من الأنف تتيح استنتاجات طيبةً على مستوى معاودة إقلاع عجلة التنمية في سورية.. ولا نتحدث عن عالم آخر ولا عن وقائع تجري ما فوق الغلاف الجوي، بل على الأرض وفي البيئات والأقاليم الصغيرة يمكن أن نعاين تجارب نجاح لم يكترث أصحابها لسرديات الإحباط و التذرّع، ويمكن لمن يشاء أن يقلدها ويحذو حذوَ أصحابها، شريطة أن يقرر ويبادر.
الأفق واعد وليس قاتماً.. وعجلة التنمية عموماً تتسارع في هذا البلد الذي يحتاج جهوداً كبيرة لاستدراك كمّ هائلٍ من الفرص الفائتة، ومن يستفيق من صدمة دامت عقداً ونيفاً من الزمن، و يتحرر من سطوة “اليأس” ستختلف عنده زاوية الرؤية.. ولا يجوز أن يلتقط الآخر هذه الحقيقة قبلنا – نحن السوريين – أبناء البلد.
لا بد لنا جميعاً أن ننفض غبار الحرب، و نبدأ بتناول مُختلفٍ لاستحقاقاتِ الغدِ القريبِ والبعيد، لأننا بحاجة إلى مفردات جديدة ورؤى مختلفة عما اعتدناه قبل وإبان الحرب على بلدنا، وهذا ما يطلق عليه “إعادة هيكلة” على مستوى الاقتصاد الكلي، وإعادة هندسة بسيطة على المستوى الفردي..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار