«الذكاء الاقتصادي».. لا طريق إلى حرب عالمية ثالثة !

يُقال بالمجمل إن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان ولا يزال وسيبقى، أعقل – بمعنى أذكى – من أن يزج نفسه في أتون حرب عالمية ثالثة. ونقصد بهذا العالم ، القوى المنتصرة التي أفرزتها هذه الحرب والتي بنت إمبراطوريات اقتصادية عملاقة سيطرت وتسيدت بها (الإمبراطوريات الرأسمالية) وعلى قمتها الولايات المتحدة الأميركية.. أيضاً – وبالتساوي مع هذه القوى – هناك القوى الصاعدة التي نجحت بدورها – خلال العقدين الماضيين- في بناء إمبراطورياتها الاقتصادية التي بدأت تزاحم الإمبراطوريات الرأسمالية (التقليدية) بل تفوقت وحلت محلها في مواقع ومواضع ومجالات كثيرة لتشكل التهديد الأكبر لها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.

ولأن التزاحم تحول إلى صراع مُعلن، ولأنه صراع يدور بين قوى تكاد تتساوى بامتلاك أعتى الترسانات العسكرية، وأشدها فتكاً ودماراً في التاريخ البشري، ولأن العالم حسب توقعات أكبر المؤسسات والمنظمات الاقتصادية يسير حتمياً نحو ركود اقتصادي لن تنجو منه حتى هذه القوى، فإنه لا بد أن يقود كل ذلك إلى حرب عالمية ثالثة تعيد رسم نظام اقتصادي عالمي جديد بقوى عالمية جديدة، تماماً كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية.

 

الثالوث المشؤوم

أصحاب هذا الرأي يعيدوننا إلى دفاتر القرن الماضي الذي شهد حربين عالميتين الأولى (1914- 1918) والثانية (1939 – 1945) وإلى العوامل التي قادت إليهما، ويقولون إن الحروب العالمية لا تندلع إلا مع اجتماع عناصر ثلاثة تسمى بالثالوث المشؤوم، وهي الأزمات الاقتصادية، وبروز دول صاعدة تطمح لإزاحة الدولة قائدة العالم عن عرشها وتبوؤ مقعدها، وظهور قيادات شعبوية (مخالفو الأنظمة الثابتة) في كثير من دول العالم.

ويرون أن هذا الثالوث بات مكتملاً اليوم بوجود روسيا والصين كقوى صاعدة طامحة تنازع الولايات المتحدة على القيادة العالمية، والأزمة الاقتصادية الناجمة بالدرجة الأولى عن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، إضافة إلى صعود قادة شعبويين في العديد من القوى الرأسمالية في الولايات المتحدة وفي أوروبا أشهرهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ورئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون.

ولكن حتى يتحول هذا الثالوث المشؤوم إلى حرب لا بد من وجود نقاط ملتهبة (براميل بارود) حسب تعبير مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، تنفجر أو يتم تفجرها لجر الجميع إلى دائرة الحرب، وما أكثر هذه البراميل. على الأقل هناك خمس مناطق (براميل بارود) حول العالم منها منطقتنا وجوارها الخليجي (إيران)، وبحر الصين الجنوبي (تايوان)، باكستان والهند، وشبه الجزيرة الكورية، أوكرانيا.

لكن براميل البارود لطالما كانت موجودة، وفي الأماكن نفسها تقريباً.. على الأكيد كان هناك أماكن أخرى لم تقل خطورة وتهديداً باندلاع حرب عالمية ثالثة، إذ إن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن عالماً أميركياً فقط بل كان سوفيتياً أيضاً، وكان الصراع على أشده. حتى عندما انهار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي لتتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، لم يدم هذا الحال طويلاً، حيث عاد الاتحاد السوفييتي في صورة روسيا الاتحادية برفقة جمهورية الصين الشعبية، وبدل من أن يكون للولايات المتحدة «خصم/عدو» استراتيجي واحد، بات عندها اثنان.

وفي كثير من المرات وصل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حافة الحرب الثالثة (ربما أشهرها في خليج الخنازير/ كوبا 1962) لكن هذه الحرب لم تقع، حيث كانت القوى الكبرى تعيد في كل مرة صياغة علاقاتها (وصراعاتها) بما يبعد شبح الحرب، مستعيضة عن ذلك بحروب أخرى، وفي ميادين بعيدة، أو ميادين غير عسكرية، كما كان حال الحرب الباردة … والحروب السيبرانية حالياً.. والحروب التجارية والتكنولوجية وغيرها.. ولا ننسى «الربيع العربي» الذي أعاد خلط أوراق هذه القوى ووسع ميادين الصراع بينها، وجعلها تتواجد في المنطقة ذاتها، من دون اصطدام عسكري مباشر، بل مجرد احتكاكات عن بعد وتوجيه رسائل غير مباشرة بأن كل قوة يجب أن تحافظ على قواعد اللعب الذي لا يقود إلى حرب عالمية ثالثة.

من هنا يأتي حديثنا عن الذكاء الاقتصادي، حيث لا نقصد هنا الذكاء بمعنى التفوق أو التطور الاقتصادي أو قوة وحجم الإمبراطوريات الاقتصادية، بل نقصد الذكاء في إدارة السياسات وصراعاتها (صراع المصالح والمطامع) للمحافظة على التفوق الاقتصادي.. وفي الحال ما بين الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة ثانية فإن المطلوب هو إدارة الصراع الاقتصادي بالكثير جداً من الذكاء السياسي والتوازن والحذر (في التصعيد وفي التهدئة) حتى لا يصل إلى حرب عالمية ثالثة لن يكون فيها أي من الجانبين رابحاً بالصورة التي ستحافظ على مواقعه العالمية، هذا عدا عن احتمالات صعود قوى أخرى، تماماً كما حدث في الحربين الأولى والثانية، وهذا ما تدركه الولايات المتحدة وروسيا والصين جيداً.

ونحن هنا إذ نتحدث فقط عن هذه الدول الثلاثة فلأن الجميع يفترض أن الحرب العالمية الثالثة ستدور إما بين الولايات المتحدة والصين، وإما بين الولايات المتحدة وروسيا.

 

الولايات المتحدة وروسيا

لنتابع مسار «اتفاقية الضمانات» التي عرضتها روسيا على الولايات المتحدة والتي من المفترض أن أول اجتماعاتها على مستوى وزراء الخارجية سيكون في الـ10 من هذا الشهر، أي يوم الإثنين المقبل. المراقبون قرؤوا بنودها كاتفاقية أمنية (عدم اعتداء) ثنائية الاتجاه، تحول دون توسع الصراع بينهما إلى حرب عسكرية مباشرة ستتحول بسرعة وتلقائياً إلى عالمية مع دخول الصين إلى جانب روسيا ودخول أوروبا وأستراليا واليابان إلى جانب الولايات المتحدة.

مجمل النصائح المقدمة للولايات المتحدة تتركز على ضرورة التفاوض مع روسيا التي هي بالأساس لا تدفع باتجاه حرب مع الولايات المتحدة وإنما هذه الأخيرة هي من يدفع بهذا الاتجاه، عبر التحرش بروسيا بشكل مباشر وغير مباشر، في أوكرانيا وفي غيرها.

التوقعات بإمكانية قبول الولايات المتحدة بالاتفاقية الروسية كبيرة، ولنتذكر هنا أن ترامب سعى طيلة ولايته الرئاسية إلى الدفع باتجاه «اتفاقية سلام أكثر ديمومة وشمولاً» مع روسيا، لكنه لم ينجح، فيما بايدن الذي كان من أشد المعارضين لها سيجد نفسه مضطراً للقبول بها.

 

الولايات المتحدة والصين

إذاً يمكن القول إن هناك رغبة أو توجهاً أو ميلاً من الجانبين لتجنب مواجهة تقود إلى حرب عالمية، وهذا يعني بالقراءة الميدانية أن لا حرب بينهما.. وبالمقياس نفسه يمكن أن نتحدث عن الولايات المتحدة والصين فرغم ما تشهده العلاقات بينهما من حدة في التصريحات (والتهديدات) إلا أن كليهما يشدان عقارب المواجهة نحو الوراء في كل مرة تتسع فيها حدّة المواجهة الاقتصادية/التجارية إنذاراً بوقوع مواجهة عسكرية.

وبلغة الاقتصاديين فإن الولايات المتحدة والصين لديهما درجة عالية من الاعتماد الاقتصادي على بعضهما البعض، أي إن التعاون الاقتصادي والتجاري قائم ومتفق عليه بصورة كبيرة، هذا أمر لا يفسده إلا مساعي الولايات المتحدة المتواصلة لمحاصرة الصين ومنعها من تجاوز خطوط التعاون باتجاه «اكتساح عالمي»، فالصين ليست دولة تجارية ناحجة فقط بل هي بتعبير الاقتصاديين «دولة اقتصادية نابغة» تمتلك باعتراف الأميركيين تفوقاً عسكرياً غير مسبوق في تاريخها، وقادرة على الفوز في أي مواجهة عسكرية، وهذا كابوس بالنسبة للولايات المتحدة يدفعها إلى التفكير ألف مرة قبل خوض حرب عسكرية مع الصين.

 

ضبط وانضباط

هذا يعني بالمحصلة أن لا حرب قادمة بين الولايات المتحدة مع الصين أو مع روسيا، وبالتالي لا حرب عالمية ثالثة طالما بقي عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مضبوطاً على إيقاع اقتصادي متفق عليه، يضع كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين على جبهة واحدة وليس على جبهات متعادية.. أما ما يجري فعلاً فهو مواجهات في ميادين النفوذ العالمية (أي الأسواق العالمية) التي باتت هذه القوى الثلاثة تتقاسمها من جهة.. وتبادل مصالح من جهة ثانية (أعطيك هنا لتعطيني هناك). وهذا ليس بجديد، لطالما كان قائماً، لم يتوقف، وإنما يتخذ شكل وصورة كل مرحلة يمر بها.. وهو لن يتوقف لأنه كما قلنا بداية، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقواه القديمة والصاعدة، وما سيأتي، هو أعقل وأذكى اقتصادياً من أن يخوض حرباً عسكرية مدمرة كما الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهو لا يريد التفريط بمكاسبه بقدر ما يريد أن يضيف عليها ومن دون حروب عالمية حتى لو كان يواصل تكديس أعتى الأسلحة وأشدها فتكاً ودماراً.

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
في ذكرى تأسيس وزارة الثقافة الـ 66.. انطلاق أيام الثقافة السورية "الثقافة رسالة حياة" على سيرة إعفاء مدير عام الكابلات... حكايا فساد مريرة في قطاع «خصوصي» لا عام ولا خاص تعزيز ثقافة الشكوى وإلغاء عقوبة السجن ورفع الغرامات المالية.. أبرز مداخلات الجلسة الثانية من جلسات الحوار حول تعديل قانون حماية المستهلك في حماة شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا