لكلّ مجموعة ثقافية نصوصها المؤسِّسة التي تتجاوز تخوم الزمان، وتخوم المكان في حالات أقلّ من حالات تجاوز التخوم الزمانية؛ فالمجموعات الثقافية الضيّقة التي تعاني لغاتها خطر الانقراض، لديها نصوصها التأسيسية التي تجاوزت تخوم الزمان لكنها بقيت محصورة ضمن المجال المكاني الضيّق الذي تشغله, وفي مثالنا الخاصّ بلغتنا العربية التي بلغت مستوى مميّزاً من النضج قبل ظهور الإسلام نجد لدينا وفرة من النصوص التأسيسية المتمثلة في الشعر الجاهلي الذي شكّل النصوص التأسيسية الأولى لآداب اللغة العربية؛ وبطبيعة الحال لم تكن النصوص (الجاهلية) هي المنفردة بمسألة التأسيس بل ظهرت في العصور اللاحقة نصوص تأسيسية أخرى، لكنّ عددها أدنى ممّا احتواه (العصر الجاهلي) الذي لم تكن نصوصه جميعها نصوصاً تأسيسية بطبيعة التفاوت القائم بين النصّ والنصّ في كلّ مكان وكلّ زمان.
المعتمد في التعليم الجامعي أنّ جماليات النصوص الجاهلية نابعة من طبيعة عصرها، وخاضعة لقيم ذلك العصر واعتباراته المرتبطة ارتباطاً جدليّاً بالواقع التاريخي الذي أطّر تلك النصوص وجعلها على ما هي عليه؛ وهذا أمر سليم من الناحيتين الصوريّة والفعلية التي تؤكّد وجود ارتباط عميق بين الأدب والواقع الذي أطّر إنتاجه, غير أنّ تأمّلاً أعمق للمسألة يجعلنا نمضي مع (غادامير) إلى أنّ معالجة تلك النصوص المؤسّسة في ضوء ظرفها التاريخي الشامل معالجة قاصرة عن تبيان كامل السرّ القائم وراء استمرارها حيّة ما يربو على ألف وخمسمئة عام. لقد تغيّر الواقع التاريخي القائم في المنطقة تغيّراً حاسماً، وتغيّرت الجغرافيا أيضاً؛ إننا نعالج نصوصاً أنتجتها بيئة ناشفة ذات مناخ شديد التطرّف, كائناتها الحيّة جميعها، بما فيها الإنسان، تمارس حياتها تحت تهديد نقص الموارد الضرورية للحياة من ماء وغذاء؛ ومع ذلك نتذوّقها ونعالجها ونستمتع بجماليّاتها في زمان آخر بعيد وبيئة مختلفة كلّ الاختلاف عمّا كان الوضع عليه في الجزيرة العربية أيّام إنتاج القصائد العربية الأولى .
لو لم تكن العصور القائمة بين العصر الجاهلي وعصرنا الراهن قد منحت نصوصنا التأسيسية قيماً جمالية وفكرية عالية لما احتفظت بتلك النصوص وأمّنت وصولها إلى عصرنا, والسبب في سياق نظريات التأويل المختلفة أنّ الأساس في معالجة النصوص القديمة معالجتها في ضوء التطوّر المعرفي الشامل الذي يمنح أبناء عصرنا وسائل استيضاح معرفي لم تكن متاحة لأبناء العصور الأخرى؛ وعلى ذلك يجب أن يستمد النصّ القديم قيمته من العصر الذي وصل إليه لا من العصر الذي ولد فيه.