صار تعبير (النصّ الثري) شائعاً لدى المهتمّين بالقراءة، وصار الفرق بين مفهومي النصّ الثريّ والنص الفقير معروفاً على النطاق المدرسيّ؛ بوصف النصّ الفقير لا يعطي إلا ذاته المباشرة البسيطة, خلافاً للنصّ الثريّ الذي يبطن في ظلال الكلمات، وبين السطور، ويبتعث في فضائه الخاصّ أضعاف ما تقوله بنيته اللغوية التي تمنح ذاتها بطريقتين واحدة مباشرة يتلقّاها القرّاء جميعاً، وأخرى غير مباشرة تمنح نفسها على عدد من المراحل والمستويات؛ إلى حدّ الزعم بأنّ كلّ قراءة جديدة يمكنها أن تمتح من النصّ الثريّ المعنيّ بالتناول معانيَ ودلالات جديدة لم تتمكّن منها القراءات السابقة
والتأويل منهج قديم في مواجهة النصوص الثريّة والفقيرة على حدّ سواء؛ وهناك من يردّ أسسه الأولى إلى كلٍّ من أفلاطون وأرسطو، قبل أن يترسّخ استعماله في مختلف الدراسات اللاهوتية التي تناولت نصوص الكتاب المقدّس، وعلى الأخصّ (العهد القديم) الذي حظي بعدد كبير من الدراسات والتفاسير والشروح والتأويلات التي بذلها اللاهوتيّون المسيحيّون، في سياق الإصرار المسيحي التقليدي الذاهب إلى جعْلِ جميع ما جاء في العهد القديم توطئة وتبشيراً وإشارات غنوصيّة إلى قدوم السيّد المسيح
ومن طبائع الأمور أيضاً أن يكتظّ تراثنا العربي بمختلف أشكال التأويل التي تأسّست في إطاري الدراسات والاجتهادات الفقهية ذات الطابع الديني والدراسات الخاصة بمختلف علوم اللغة التي جرى اعتمادها في خدمة النصّ الديني، قبل أن تجد طريقها إلى الاستقلال بذاتها. لكنّ الأمر لم يبقَ مقتصراً على الأطر اللاهوتية، حين بدأ الانفتاح على النصوص الأدبية المميّزة؛ وعرف هذا الانفتاح أسماء فلاسفة كبارٍ منهم – تمثيلاً لا حصراً – شلاير ماخّر، وغادامير، وبول ريكور، والأهم هايدغر الذي يراه الدكتور مصطفي ناصِف في كتابه (نظرية التأويل) أهمّ الفلاسفة الذين اعتمدوا التأويل في دراسة الأدب إلى ما يشبه الربط بين اسم الفيلسوف والمناهج التأويلية الحديثة
ممّا يؤخذ على التأويل أنّه (أحياناً) يخرج بالنصوص المستهدفة بالتأويل عن مقاصدها المباشرة التي يمكن أن تكون مقاصد عظيمة بطبيعة النصّ الذي استطاع أن يجتذب مختلف أنواع القرّاء, ولكن مهما بلغ شطط التأويل في تحميل النصّ بما يبدو فائضاً عن حمولته الفعلية، فالمهمّ أنّه قادر على إنتاج أنساق معرفية جديدة ما كان لها أن تكون، وما كان للنصّ أن يحملها بطاقته الذاتية لولا النشاط التأويلي القادر على تخصيب النصوص المنتَجَة من قبل، وجعلها مادّة للمزيد من التفكير القادر على تخصيب الحياة.