كان ذلك في منزله في دمشق…
الزَّمن أواخر التسعينيّات…
الغرفة صغيرة، سقفها عالٍ، لها شرفة ضيّقة في بناء عتيق، والكتب حتماً على رفوف بعرض أحد الجدران، وعلى طاولةِ الوسط حول مزهريَّة نحاسيّة، وعقلي يشتغل في مكانٍ آخر، مستحضِراً باقةَ الأسئلة التي أعدُّها للضّيف، وأخشى أن يضيع بعضُها فيضيع معها خطُّ الحوار وتركيزُ مساره، بينما كان المضّيفُ هادئاً، بملابسه المنزليّة البسيطة ينتظر أن أستقرّ بعد أن أخرجتُ المايكرفون وخطر لي أن أضعه في المزهرية، ليثبت بيني وبينه أثناء التّسجيل، وهو يسألني: -مناسبٌ أن تشربي قهوة الآن؟ فإذْ بطنين المايكرفون يعلو بصفيرٍ عالٍ وينذر ببساطة، أن أبعديه عن تجويف النّحاس، عدا عن وجوب حيازة حاملٍ له في التّسجيلات القادمة: -هيّا تصرّفي في حضرة عالِمٍ وأستاذٍ، حين اتّصلتِ به من أجل لقاء إذاعيّ رحَّب بك دون أن يتلكّأ أو يطرح أسئلة عن: ما الموضوع وكم مدّة اللّقاء ومتى يذاع وهل هو مأجور؟ وعلى صوته المأنوس كنت أفتّش عن حلٍّ لتثبيت وتقريب المايكرفون! قال: عملكم شيّق لكن فيه متاعب لا يعرفها إلا أهله! كان بصوته العذب وملاحظاته الودودة يفكّك الحرَجَ الذي وقعتُ فيه حتى شجّعني أن أداعبَه قائلةً: -دكتور فاخر، أنت بحقّ عالِم نفْسٍ لا تنسى أدواتك في أيّ ظرف! ها أنذا أستعيد ثقتي بنفسي ولن أضيّع من وقتك أكثر، سأمسك المايكرفون بيدي! قال بهدوء: -حقاً تفقدين الثّقة أحياناً؟ ما رأيك أنني طمحتُ يوماً أن أكون قاصّاً أكتب مثلك قصّة قصيرة، أضع فيها مشاعر إنسانيَّة نبيلة تدوم أكثر من أيّ نظريَّة يبتكرها عالِم؟ أذهلني ما قاله، لأنني لم أكن أصدرتُ سوى مجموعتين لا أعرف لهما قرّاءً وحسبتُ أنّهما لزمنٍ قادمٍ قد لا أعرفه ولا أعيشه، لقناعاتٍ خاصّة بي، وواصل حديثاً في اختصاصه التّربويّ والنّفسي: تعرفين رأيي بفرويد الذي يُذكر في كلّ حوارٍ مع مختصّين، أنا شكّلت رأياً مختلفاً عمّا قاله هو وتلاميذه عن دافع «اللّيبيدو», حياةُ البشر تصدر عن دافع الحبّ وليس الغريزة! وكلُّ الحضارة الإنسانيّة قامت على هذا الدّافع، وإلا كيف بوسعنا أن نفهمَ سرّ الفلّاح الذي يشقى في برد الفجر وفلاحة الأرض وتعشيبها وسقايتها وحصادها؟ وماذا عن الأمّ التي تفنى في الحَمْل والوضْع والسّهر؟ وذلك النحّات الذي يصارع الصخرَ ليليِّنه ويصنع تمثالاً؟ كلُّ سلوك إنسانيّ دافعه الحبُّ!
هو بذاته كان ممتلئاً بالحبّ سلوكاً وحديثاً، وستمرُّ سنوات، قبل أن أقرأ هذه النظريّة ممهورةً بتوقيعه: «فاخر عاقل» في مجلة المعرفة عام 2005 فوق كلّ جهده العلميّ العظيم الذي تركه للأجيال قبل رحيله عام 2010.