كان لافتاً و«مقلقاً» أن يبدأ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن جولته الحالية في المنطقة من تركيا، والمُعلن أميركياً أن الزيارة متعلقة بمعالجة المخاوف اليونانية بشأن بيع طائرات مقاتلة أميركية لأنقرة، حيث زار بلينكن اليونان أيضاً، ثم انتقل إلى المنطقة في جولة تشمل خمس دول لبحث تطورات جبهة غزة، خصوصاً مع انتقالها إلى مرحلة جديدة قوامها توسيع الدائرة إقليمياً، بتوقيع أميركي – إسرائيلي، رغم كل ما تزعمه واشنطن بأن همّها الأساسي هو منع امتدادها إقليمياً.
ورغم ذلك كانت غزة الملف الرئيسي على طاولة بلينكن- أردوغان وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى تأكيدات أو بيانات رسمية، حيث نقلت وكالة «بلومبرغ» عن مسؤول أميركي مرافق لبلينكن في جولته، قوله إن واشنطن تسعى إلى حشد دعم تركيا لخطط حكم غزة ما بعد الحرب، وعلى فرض أن الكيان الإسرائيلي سيخرج رابحاً منها. بدورها نشرت مجلة «Politico» الأميركية تقريراً حول ذلك قالت فيه: إن مسؤولي إدارة بايدن يضعون خططاً للتعامل مع احتمال توسّع الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة، وتحوُّلها إلى صراع إقليمي مُطوّل.
من هنا يأتي القلق حول تركيا ودورها لناحية إدراجها ضمن الخطط الأميركية لما بات يسمى «اليوم التالي»، حيث تتركز جولة بلينكن وغيره من المسؤولين الأميركيين «والأوروبيين» الموجودين بالتزامن في المنطقة، على هندسة هذا اليوم لتحقيق الهدف الإسرائيلي الأساسي وهو «انهاء غزة كتهديد للكيان الإسرائيلي» وعبر مخطط رئيسي هو إفراغها من سكانها، فإذا لم يتحقق هذا الهدف فإن لدى إدارة بايدن «خطة/ب» وهي توسيع الجبهة باتجاه الإقليم، وهي فعلياً أطلقت سلسلة ضربات هي بمنزلة رسائل تحذيرية من لبنان إلى العراق إلى إيران، بأنها ستعتمد التصعيد الإقليمي في حال فشل ذلك الهدف الإسرائيلي، وتقول للمحور المساند لغزة إنها قادرة على التصعيد والمضي به إلى حرب إقليمية موسعة.. أو بعبارة أدق هي ستعمد إلى مواصلة تلك الضربات بصورة مكثفة وأكثر قوة وبما يُجبر المحور المساند لغزة على إعلان حرب إقليمية، عندها تدخل أميركا بجيوشها وترسانتها العسكرية لتوسع جبهة العدوان الوحشي الإسرائيلي الذي دخل شهره الرابع على قطاع غزة، إلى الجوار.
ما صدر من تركيا بعد انتهاء زيارة بلينكن وتوجهه إلى اليونان «على أن يصل غداً الإثنين إلى الكيان الإسرائيلي» لم يخرج عن المألوف لناحية الدعوة إلى وقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات والتحذير من أن الحرب تهدد المنطقة بأكملها.. هذا فوق الطاولة، أّمّا تحتها..؟
غير خافٍ على أحد أن تركيا سعت وما زالت تسعى وبصورة كبيرة ومُعلنة، منذ 7 تشرين الأول الماضي، بعد عملية طوفان الأقصى، لأن يكون لها دور على ساحة غزة، وترتيباتها الدائرة والمستقبلية، لكن أميركا ومعها الكيان الإسرائيلي استبعدا تركيا وتجاهلاها، على قاعدة أن أميركا يكفيها ما يثيره نظام أردوغان من أزمات وتعقيدات لها في سورية، حتى يأتي اليوم ليمد حبل هذه الأزمات إلى غزة، وبما يوسع دائرة الاستغلال الإقليمي التي يريدها، حيث غزة الآن البوابة الأوسع لذلك، وهذا ما لا تريده واشنطن.
عملياً، هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها تركيا على جدول زيارة مسؤول أميركي منذ عملية طوفان الأقصى، وهذه الجولة لبلينكن هي الرابعة إلى جانب جولات المسؤولين الأميركيين الآخرين التي لا تتوقف، فمع بلينكن يجول في المنطقة مجدداً آموس هوكشتاين كبير مستشاري البيت الأبيض، ومسؤولون أوروبيون منهم وزير السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل.
الجولات الحالية تأتي على خلفية تصعيد أميركي- إسرائيلي متعمد من لبنان إلى العراق إلى إيران «وقريباً اليمن حيث هناك حديث واسع عن اتجاه أميركي لتنفيذ عدوان على اليمن».. وعلى زعم أن الهدف هو التهدئة وضبط ردود الفعل، لكننا في الوقت ذاته لا نفهم كيف يستقيم مع أميركا أن تصعد من جهة وتعلن في الوقت ذاته أن هدف التصعيد هو التهدئة إلا إذا كانت تريد أن توصل رسالة محددة للمعنيين في المنطقة بأنها لا هي ولا الكيان الإسرائيلي سيتجه نحو التنازل أو التهدئة إلا بشروطها وشروط كيانها، وليستمر العدوان على غزة والتصعيد في الإقليم إلى ما لا نهاية، وعلى مبدأ «عض الأصابع».. يخسر من يصرخ أولاً.
ومع إدراج تركيا على جدول المخططات الأميركية.. يبرز سؤال: هل إن أميركا عادت عن مسألة استبعاد تركيا، لماذا ولأي هدف؟ وهل هذا له علاقة بالبحر الأحمر وما يجري تسريبه عن احتمال اعتداء أميركي على اليمن؟ وتالياً هي بحاجة لتركيا، بمعنى أنها بحاجة إلى طرف إقليمي ليشاركها الفعل القذر مقابل صفقة المقاتلات نفسها آنفة الذكر، محل الخلاف مع اليونان؟ وهل إن أميركا تريد إشراك تركيا في ترتيبات غزة ومستقبلها، خصوصاً أنها ضمن المطروح في مسألة أن تكون تركيا إحدى الجهات التي يجب أن تستضيف مليون لاجئ فلسطيني إلى جانب مصر والأردن (ودول أخرى)؟ وهل هناك ترتيب إقليمي من نوع ما ومن مستوى ما، تسعى إليه واشنطن في سبيل كسر معادلات الميدان باتجاه توسيع العمل السياسي، حيث تستطيع المناورة بصورة أكبر وفرض اتفاقات وهدن وتسويات؟
كل شيء وارد ومتوقع، وليس لنا أن نفترض- بأي حال- أن هذا الوارد أو المتوقع سيكون إيجابياً إذا ما كانت تركيا جزءاً منه رغم كل ما يصدر عن أردوغان من تصريحات حادة باتجاه الكيان الإسرائيلي وعدوانه على غزة.
كثير من التقارير تحدثت عن دعم عسكري مهم قدمته تركيا للكيان الإسرائيلي ما بعد «طوفان الأقصى»، من عتاد وسلاح، ورغم أن تركيا تنفي بصورة مستمرة هذا الأمر إلا أنه لا دخان بلا نار، ولنذكر هنا بما كانت تعلنه تركيا على الدوام لناحية المصالح الاستراتيجية الكبرى التي تربطها مع الكيان والتي يفترض أن عملية طوفان الأقصى أضرت بها بشدة.
بكل الأحوال، الأيام القليلة المقبلة كفيلة بأن تكشف ما خرجت به زيارة بلينكن إلى تركيا، لناحية تأكيد أو نفي ما سبق، علماً أننا وفي كل وقت لا نستطيع إلا أن نتوجس شراً عندما تحضر تركيا.