اغتراب

حين أخبرني بأنه أرسل إلي هدية سيوصلها ساعٍ إلى باب المنزل حدستُ بأنها حلوى رغم إقلاع الكثير منا عن تلقي وإرسال الهدايا، في زمنٍ قد تُكتب عنه قصص وروايات كما في أدبيات شعوب الحروب الكبرى، حيث يعزُّ الرغيف وتغدو الثمرة الناضجة المنسية على شجرة، لقيةً كالمعجزة، لكن حدسي أخطأ لأن الساعي كان يحمل كيساً ورقياً أحمر مكتظاً بالكتب! وكم أذهلتني هذه الهدية وأنا أفرد العناوين واحداً إثر آخر لأننا انزلقنا إلى عصر إحدى سماته “الاغتراب”! والملموس من هذا الاغتراب هو التباعد البشري القسري بكل أنواعه، فما من أسرةٍ إلا وتوزعت في البلدان القصية والقريبة، وعزاؤها دائماً أن وسائل التواصل تجمعها على مدار الساعة بالصوت والصورة، وقد فتح هذا “الاغتراب” الفضاءات على اتساعها، لكنه أغلق أبواب البيوت الصغيرة وأخلى عتباتها من الطارقين! وعلى هذه الوسائل نفسها تمّ نقل كلّ طقوسنا بما فيها مواقعُ الكتب بديلةُ دور النشر والمعارض والمكتبات، يرافقها تهليلٌ ومديحٌ بأنها نجت من التضييق والرقابة والوصاية! وقد فتحتُ إحدى هذه النوافذ بعد حصار الحرب وغياب مكتبتي وراء الطرقات التي سيطر عليها الإرهابيون، فوجدت خيارات لا تحصى وعناوين لم تصل إلى يدي عبر الحدود، ومنصات تروّج لروايات حظيت بملايين القراء! وفي إحداها فتاة ، لخّصت رواية، ودعت مشاهديها إلى قراءتها! ولكمْ راعني أن الرواية تمجد الشذوذ وترافق البطل في عذاباته كأنه “راسكولينكوف” في صراعه النفسي بعد تجربة القتل واستقراء سيرة “نابليون” الذي تُوّج بطلاً عظيماً رغم قتله الملايين من الأبرياء! إلى هنا نقلتنا “الثقافة” المعاصرة، بعيداً عن الرقابة والتقييم، وعقود ترجمة الكتب مع خيرة المترجمين! إلى قبضةٍ جديدة انتهى فيها عالمُ القراءة والثقافة، حيث “النيوليبرالية” لأن “الليبرالية” لم تعد تفي بالغرض لتمزيق ما تبقى من نسيج وجودنا الإنساني الذي أضنى البشرية في مسارها ليبلغ هذه الدقة وهذا الجمال! وغير هذا الموقع مئات المواقع التي تتنافس لإيصال هذه الثقافة بسرعة الضوء إلى الأجيال التي ليس في يومياتها عادةُ القراءة والبحث عن العناوين، لكنها في مثل هذه الروايات الممدوحة بتعداد قرائها، ستُكمل “طقم” الأفلام والأغاني والمسلسلات وما يُسمّى صناعة المحتوى، بحيث إذا ذهب “المستخدم” من موقع أحد المشاهير في زمن “صناعة التفاهة” وجد أمامه روايةً تكمل الدائرة الذهنية والفكرية و”الثقافية” المحيطة به!
كان عليّ أن أتصل بالصديق صاحب “الهدية” لأشكره بحرارة على تحيته التي خفّفت غربتي، ويا لهذا الزمن الذي يدعونا بصدق ألا نغادر مكاننا إلى أي “اغتراب”!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا خلال اليوم الثانى من ورشة العمل.. سياسة الحكومة تجاه المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والرؤية المستقبلية مؤتمر "كوب 29" يعكس عدم التوازن في الأولويات العالمية.. 300 مليار دولار.. تعهدات بمواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات مستحضرات التجميل ميدان حاكم سيلزم «إسرائيل» بالتفاوض على قاعدة «لبنان هنا ليبقى».. بوريل في ‏بيروت بمهمة أوروبية أم إسرائيلية؟