قالت إن فرحها بنجاح ابنتها وقبولها في الجامعة ما زال يحتاج إلى مليون ليرة ليكتمل!
البنت تحتاج إلى هاتف جوال يرافقها في دراستها وبين زملائها، وهو ليس للقيافة والتماثل مع الآخرين بل للاستزادة من المعارف والمعلومات، ورغم أن المبلغ في هذه الظروف الحرجة أكبر من طاقة الأهل، فإن أفانين التدبير ستخرج ولو من مكامن المستحيلات!
حين تُذكَر المعرفة يجنح التفكير تلقائياً إلى الكتاب! وفي بيت السيدة أم الطالبة كل أنواع الأثاث المتواضع الأنيق عدا المكتبة! وعلى دَرْج ثقافتنا ومعضلة القراءة والمطالعة التي كانت تُطرح، ندواتٍ ومقالات وإحصاءات ونقداً مريراً لأزمة تداول الكتب، كان سعرُ الكتاب الغالي الذي يثقل كاهل الأسرة على حساب رغيف الخبز يحضر كأول سبب لهجر القراءة، وكم تبدو هذه الذريعة واهية في أول اختبار نقع فيه تحت سطوة التكنولوجيا واستعبادها للعباد، وأقلُّ ما فيها الاستعراض والتقليد والتسابق على الاقتناء! وأغرب الغرائب أن الرقاب كلَّها انحنت على نِطع الأجهزة «الذكية» ولو كانت على حساب كلّ الضروريات، وكأن انعدامها يعني فقدان إحدى الحواس أو أعضاء الجسد، وما عادت المساومة والمفاضلة بين شيء وآخر حاضرة كما كان عليه حال الكتاب في ثقافتنا الشائعة!
ماذا لو أن هذه الأم اشترت كتباً بمليون ليرة؟ ماذا لو كان هذا المبلغ قد تسرّب على دفعات من قبل أن تبصر الطالبة النور، ثم رافقها من الروضة إلى الابتدائية حتى الجامعة، وكم كانت المكتبة ستربو وتصبح ثروة هائلة تصمد في وجه الزمان ثم تُورّث إلى أجيال وأجيال! وإن قلتُ إن المكتبة تربو تجاوزت حقيقةً أقوى وأكثر سطوعاً وهي أن الكتابَ بمفرده يربو عبر الزمن من لحظة انتهاء قراءته الأولى، ثم انتقاله إلى يدٍ أخرى أو تلبُّثه في الوعي يتقلب ويُعتم ثم يعود مشحوناً بإضاءات أخرى، عدا أنه يعيش أبدَ الدهر وفي قارئه بعضٌ منه يتعايش معه غائباً وحاضراً ويتحدّث بأفكاره ويسمو به ويخلو إليه حين يشتد الزحام، وعلى مبعدةٍ قليلة من هذه الحقيقة، قد يفقد المال قيمته، ويتبدد كأنه ما كان، لأنه واقع أبداً في مهب الريح والمقامرة والمخادعة والخسارة والغدر والطمع والحسابات الجائرة، أما الكتاب فمن ورقٍ وحبرٍ إلى ذهبٍ يصفو أكثر فأكثر كلما مرّت عليه الدهور والأيادي والعقول…
ما أصعب أن تتبدّل المفاهيم في كل زمان رغم أن الإنسان كاد يعيد هندسة الكون على الشاكلة التي تحلو له، ويظنها أقصى ما وصل إليه ذكاؤه وعقلُه بَلْه كماله وطموحه للسيطرة على كل ما تقع عليه عينه وتمسك به يده!