التشكيلي نبيل السمّان.. عابرٌ خطّ القلق ومغامرٌ يعادلُ الوجود!
الفنُّ كالحبِّ غير قابلٍ للتفسير، كوصالِ ضوءٍ إلى آخر، كـ«تعويذة شفاء، كفراشة تولد من جديد في حفلة ملّونة»! إيقاع مدنٍ حنون، شاهدُ عصرٍ، ونشوةُ انتصار، إنه الزمنُ الموازي للمدهش المشتهى!
محمّلٌّ بقلق الوصول والتجدد في رحلة البحث عن ضفافٍ وآفاق، عن زمنٍ طازج ومغامرة وحياة، عبر الحرب والسلم يطوف بنا الفنان التشكيلي نبيل السمان في خضمّ العناصر والمعنى واللون، بالحلم والغد الموعود.. التقتهُ «تشرين» وكان معه هذا الحوار:
• قبل الحربُ على البلاد، كانت سورية تُعدُّ واحداً من المراكز الفنية الرائدة في الشرق الأوسط المعروفة بتاريخها الثقافي وصالات العرض الصاعدة المميزة, متى كانت بداية نبيل السمان؟
عشقت الفن قبل التحاقي بكلية الفنون الجميلة، أما العمل فمارسته قبل وبعد التخرج في عام 1981، مثلي مثل كثير من الفنانين ذوي التجارب الواعدة من أبناء الجيل الثالث أو الرابع بخريطة التشكيل السوري بعد الرواد من أمثال ميشيل كرشة وتوفيق طارق وغيرهما من المؤسسين، سعياً للوصول إلى هوية مميزة، ولوحةٍ تَسِمُنا، وإلى مشروعنا المعرفي الإبداعي.
• سنواتٍ طويلة من الحرب على سورية رافقها بعض الصمتِ التشكيلي داخل البلاد، أين الفنان من الحدث من وجهة نظرك، خاصة في ظل مسؤوليات الفنان كمُنتِج ثقافي؟
صمتٌ أتى كردّ فعل على الصدمة الشديدة، لم نكن نتوقع هذا الكمّ من البشاعة. عمِلَ «الشتاء» العربي – المؤدي لدربٍ مجهول – على مغادرة البعض، واعتكاف آخرين لمراقبة ما يحدث، أما القلائل ممن عبّروا بلوحات المعاناة والفقدان فتحلوا بالفهم الواعي. وما المثقفُ، كما أراه، إلّا ذاك العارفُ بموقعه في الزمان والمكان، أما عنّا نحن من رفضنا الهجرة، فحاولنا قدر المستطاع العمل بالشأن العام بعيداً عن التنظير.. كنا موجودين حيث يفترض أن نكون.
• الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات، كما قال بابلو بيكاسو، لأي مدىً تمكّن الفن التشكيلي السوري من كتابة مذكرات الأزمة في البلاد؟
رغم أن العمل الفني عمل فردي، لكنْ ثمة تشابه بين الموضوعات، كالتعبير عن معاناة الطفولة رغم الحرب على سورية على سبيل المثال. أعتقد أن التقييم يقع على عاتق حركة النقد المعاصرة للتحدث عن فناني الفترة العصيبة تلك، جنباً إلى جنب مع الجمهور، لا يغيب حزني لكارثة «طلاب مدرسة عكرمة في حمص» حين تعرضت لتفجير إرهابي، فطبعتُ وجوههم بعيونٍ واسعة من هول ما أبصروا، ثم ارتقوا ببالوناتهم الملونة عبر لوحاتي إلى الأفق البعيد. لحظةُ غموضٍ هي ما يطلبُ من العمل الفني، لحظةُ إدهاش وجرعةٌ من الجمال مقابل كمّ البؤس الهائل.
• لنتحدث عن المرأة في لوحاتِ نبيل السمّان التي تجلّت بقدسية معانقة الرموز الأسطورية والروحية؟
من ينظر بلحظة صمت للوحات التي ذكرتِها، يرى أم الشهيد، زوجة الشهيد، إنهن «المريمات» كما أحب تسميتهن. هنا أجسد رمزية فقدان الأعزاء عبر تاريخ سورية ومنطقة الهلال الخصيب. لا يمكنني إلا الانحناء محبة لأمهات الشهداء الصابرات كشجرات سنديان، الصامدات كأغصان الزيتون. لا بدّ سيظهر صدى ما تركته الحرب على سورية في قلوبنا من تأثيراتها الوجدانية بلوحةٍ أو قصيدة.
*رموز ومفردات شكلت لوحاتك منسجمة مع الذاكرة المعرفية للتراث، هلّا تحدثنا عن المنعطف الذي ذهب بك لصياغة رموزه؟
في الحقيقة عمل الغزو الأمريكي للعراق ونهب ثروات متحف بغداد برسم منعطف في حياتي، بدأت العمل بعدها على التراث الغني، خاصة مع مؤامرة استهداف الإنسان جنباً إلى جنب مع تراثه وحضارته. ما أبشع ما حدث من تحطيم التماثيل في تدمر من قبل التنظيمات الإرهابية! تلك البقعة المقدسة التي أحفظها عن ظهر قلب، كل حجرٍ، كل تفصيلٍ، كل تمثال حيث كنا نرسو بملتقياتنا الفنية المشرقة. يبدو أن أحداً يريد طمس هويتنا ومسح تاريخ تراثنا الممتد عبر الأزمان، وتقويض سلام الأرض التي نبعت منها الحضارات البشرية.
• ماذا عن تأثّرك بالوجوه والموسيقا وطقوس الخصب العشتارية، الموتُ والبعثُ والتجدد، عن دوائر الزمن لحكاية الإنسان وتطور ذهنيته؟
** جدّنا سكن المغاور قبل خمسة عشر ألف سنة ق.م، وترك أثره على الجدران شاهداً طازجاً عبر الزمن. كيف أغفلُ عن أساطير الآلهة القديمة، «جلجامش» «تموز» و«عشتار»! وعن تفاصيل حياتهم المرتبطة بتجدد الحياة والخصب؛ الأبجدية، الفخار، المحراث، أول بذرة قمح سكنت رحم الأرض، أول مسكن، الموسيقا، النوتة الأولى، القيثارة الأولى، شرائع حمورابي، عصور منحتنا خبرات متراكمة.. كل البدايات المشرقة تلفتني أنا السوري المشرقي.
• بعض النقاد ينظرون لرؤيتك الفكرية بتمايز عن الفنانين التشكيليين في سورية، ماذا تقول عن هذا الاختلاف؟
**لا يمكنني القول إنني مختلف، فما أرغبه حقاً هو الرسم، تومض فكرة فأعمل عليها، ثم تتعرض لتحولات ومسارب جديدة. إن العمل الفني توليدي، لوحة تولد لوحات عدة لتعبر عن فكرة واحدة يتلقفها الجمهور العادي بفطرته الإنسانية، ربما يحب العمل أو يمقته. قد يأتي أحدهم برؤية مختلفة عما قصدته وهذا ما أعتبره تشاركية وقيمة مضافة للعمل.
• ماذا عن «القيامة» معرضك المميز خلال سنوات الحرب على سورية راصداً الظروف القاسية مستلهماً الميثولوجيا؟
«القيامة» نابعٌ من الإيمان بأن سورية ستقوم مما ألمّ بها، يبدو أن قدرنا بعد كل مصاب لملمة جراحنا والمضي قدماً للأمام، أما رمزية «القيامة» فلها قصة تعنيني كثيراً: «عشتار» صديقة ابنتي مقيمة في بيت عربي قديم تعرّض لقذيفة إرهابية أصابت الفتاة بقدميها قبل بيومين من تقديم مشروع تخرجها في كلية الفنون الجميلة، إلا أنّ أساتذتها المشرفين قاموا بمبادرة إنسانية لافتة بعيادتها ومناقشة رسالتها ومشروعها في الوقت ذاته. إصابتها المروعة احتاجت فيما بعد أربعين عملية جراحية للشفاء، تمكنت الفتاة في «يوم قيامة السيد المسيح» من النهوض على قدميها ومشت؛ إنها «عشتار» التي قامت بثوبها الأخضر في لوحة القيامة.
• قلت مرة «تمنينا أن نسأل الشهداء شو ألوانكم المفضلة»، لأيّ مدىً حققت لوحاتك هذه الأمنية؟
**ذهبتُ مرة لأحد مجالس العزاء فأخبروني بعدد شهداء العائلة الذين بلغوا العشرين شهيداً، أب وابنه رحلا بينما الجدّ من يتلقى العزاء. أجسادٌ من دونِ ظلال تركوا المسرح لنساء ثكالى وأطفال يتامى. حاولتُ اشتقاق لونٍ جديد لإيجاد معادلٍ مختلفٍ مقدس.
• مشهدية اللوحة تعكس طقوس الألوان الغنية حيث العتمة تلد نوراً وأملاً.. لنتحدث عن الدراما اللونية عند نبيل السمان؟
**ليست اللوحة سوى مختبر لوني باحث عن الدراما اللونية عن الحوار اللوني، أعتقد أنّ من عناصر نجاح العمل في لحظةٍ ما أن ينتصر لون معين على بقية الألوان، أعتبر نفسي ملوّناً، كذلك يراني الآخرون رغم عملي بالأبيض والأسود الذي استغرق طويلاً إبان رحلة الظلمة إلى النور. ما برح التراث يؤثر في رسامي الأيقونات بدءاً من تأسيس لوحاتهم باللون الأسود، وصولاً للهالة الذهبية فوق رؤوس القديسين الأشد نورانية. ويرتبط اللون بالشحنة التعبيرية التي تظهر سماتها أثناء العمل سواء بالألوان الباردة أو الحارة أو المكملة. ليست اللوحة بنظري وثيقة فحسب، بل جسراً لحياة موازية للانتصار للتفاؤل، فكلما «ضاقت العبارة اتسع المدى».
*يشير الفن إلى تحرر الإنسان في ساعات إبداعه كي يهب الحرية للآخرين إلى الأبد، كيف يمكننا تعليم الإبداع من جيل إلى جيل آخر برأيك؟
**لا يمكن تحقيق الأمر ببساطة، مطلوب من المؤسسات التعليمية الاهتمام بمنح قيمة قصوى للفن وتعريف الأطفال برموز الفن السوري، كأمثال فاتح المدرس ونصير شورى وميشيل كرشة. حالهم كحال المبدعين والشعراء السوريين، لا يمكن إنكار أهمية اللوحات في التعريف بتفاصيل الحياة في أزمان متغايرة والاستفادة منها في صناعة التاريخ. أما نحن أبناء الجيل الرابع فهناك استمرار بتاريخ الفن. إنني على الصعيد الشخصي لا أقبل بفكرة العبث، أو الفن من أجل الفن أو الفن المفاهيمي، يجب علينا مواجهة البيئة المكتظة بالمعاناة عبر المحافظة على هويتنا والاهتمام بتراثنا الفني القديم والمعاصر، مع التركيز على أهمية الشخصيات الثقافية أو التنويرية.
*أي لوحة من لوحاتك تشكل خصوصية في قلبك ولا يمكنك التخلي عنها؟
**لوحتي المفضلة اللوحة التي لم أنجزها بعد، تلك المعلقة على لوح الرسم. غداً أنا شخص جديد بفكرة جديدة، سأعدل لوحتي وأعدّلها مراراً في رحلة غير منتهية، لا لوحة مكتملة على الإطلاق.. سُئل أدونيس ذات مرة عن قصيدة عدّلها بعد نشرها، فأوضح وفق «مبدأ الثابت والمتحول» الخاص به، أن قصيدته كائنٌ حيٌ، لن تثبت حتى رحيله، وأوافقه الرأي بدوري فالذي أقبله اليوم قد أراه مختلفاً بعد زمن!
• هل نترقب إقامة معرض قادم لك؟
**يتركز همّي على لوحتي أكثر من إقامة معرض، لوحتي التي صارت أنا، أعتقد أنني سأقيم معرضاً مع اقتناعي بأن لوحاتي حاملة لنقلة نوعية وأفكار جديدة. لا بدّ للفنان من تجنب الوقوع بالتكرار عبر تغذية فكره بقراءات متنوعة، وترميم روحه بالحب والبحث عن طفله الداخلي، عن اكتشاف الدهشة والبهجة.
• ما رسالة نبيل السمان للعالم؟
**مشروع الفن، مشروع حياة؛ أن تبقي الزمن طازجاً يشبهك ويشبه أناساً سبقوك وأناساً لا تزال تتشارك معهم الحياة، بفكر نهضويّ تنويري يُخرج الإنسان من التخلف والتعصب ويفتح آفاقاً جديدة لحداثة ما. إنه مشروع الفكر والإنجاز.. إعادة تشكيل كيمياء الأشياء لوناً وتضاريس، عابراً خط القلق في مغامرة تعادل الوجود.