‏«مَدَدْ» محمود حداد.. حضرة صوفية موسيقية

تشرين- بديع صنيج: ‏

من حضر أمسية «مَدَدْ» للمطرب السوري محمود حداد في دار الأوبرا السورية سيستشعر أنه ‏ضمن حضرة صوفية موسيقية، فالافتتاحية على مقام «سماعي هزام» كانت بمثابة تحضير ‏سمعي للدخول في أجواء موشح «أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمعِ/ ونديم هِمْتُ ‏في غُرَّته وبشرب الراح من راحته/ كلما استيقظ من سكرته…» وهو من كلمات الشاعر الأندلسي ‌‏«أبو بكر بن زهر» وألحان «مجدي العقيلي» على إيقاع الأقصاق المركب، ليأتي صوت محمود ‏مناجياً المحبوب الأعلى بعدما عَشِيَت عَيناه مِن طولِ البُكا، وَبَكى بَعضه عَلى بَعضه، هنا لم يكن ‏منبع التطريب من الصوت وحده وإنما من معناه وإحساس المطرب بالشعر الذي يغنيه، مستغلاً ‏التنقلات النغمية في مقام الهزام المتفرِّع عن «السيكاه» وهو المعروف بأنه مقام العشاق وقادر ‏على إثارة لواعج النفس واشتهاءاتها المديدة. ‏
تابع حداد ضمن القالب ذاته لكن هذه المرة على مقام النهاوند بكل ما يتضمنه من شجن، ليقدم ‏موشح «منيتي عز اصطباري.. زاد وجدي والهيام/ من لحاظك كم أداري.. من سيوف مع ‏سهام…» لسيد درويش، الذي يبرز القدرة على التحكم بطبقات الصوت وطول النفس الذي تحتاجه ‏الجُمَل اللحنية والأمانات، إضافة إلى ضرورة الضبط الدقيق على إيقاع المحجَّر، بحيث أجادها ‏محمود، تاركاً جمهور صالة الدراما مع ذكريات الوجد التي حفَّزها اللحن الدرويشي المتألق، ‏وليعزز تلك الحالة مع موشح للسيد درويش أيضاً هو «يا شادي الألحان» بكل ما يتضمنه من ‏رومانسية فائقة عززها مقام الراست، وحيوية العاطفة التي تولّاها إيقاع المصمودي، ولتأتي ‏حنجرة حداد القوية لتترك أثرها الواضح خاصةً في طبقات القرار وعلامات الاستقرار، مع تلاعب ‏جميل بالعُرَب، أوضحت شخصيته الغنائية ومَلكاته في التطريب، وزاد من حُليّ ذاك الموشح ‏تفريدة القانون. ‏
وعلى نغمات مقام الحجاز المفعم بالأسى والشفقة استرسل المطرب السوري في مقاطع من فاصل ‌‏«اسق العطاش» تأليف وتلحين الشيخ محمد المنجبي الحلبي، ومن كلماته «مولاي أجفاني جفاهن ‏الكرى.. والشوق لاعجه بقلبي خيّما/ مولاي لي عملٌ ولكن موجب.. لعقوبتي فاحنن علي تكرما/ ‏واجلو صدى قلبي بصفو محبة.. يا خير من أعطى الجزاء وأنعما…» ليتحوَّل صوت محمود إلى ‏حالة من التضرُّع والخشوع وما رافقهما من صفاء مميز في النبرة التي يوجبها أداء ذاك الفاصل، ‏إضافة إلى صولو الكمان الذي أضفى عليه بهاءً فوق بهاء. ‏
ومع البقاء في روحانية مقام الحجاز قدم حداد من الفلكلور السوري أغنية «ميلي ما مال الهوى»، ‏وتدعَّمت أركان الجَمال بتفريدة على آلة العود، ليتبعها المطرب السوري بوصلة حجاز وأغنية ‌‏«يا مايلة ع الغصون»، ثم من ألحان محمد عبد الوهاب وكلمات أحمد شوقي «مضناك جفاه مرقده» ‏بحيث إن المستوى البليغ لهذه الأيقونية الموسيقية العربية استدعى من حداد أن يجاري مفردات ‏تميُّزها، وهو ما فعله مستفيداً من خلفية الغنية في الغناء الصوفي والديني، ومن تمكُّنه في زخرفة ‏أدائه بحُليات من العُرَب بلا مبالغة أو تشاوف، مع التأكيد على قوة حنجرته الطَّيِّعة في الانتقال ‏بين طبقات القرار والجواب، وأيضاً الانسجام مع معاني قصيدة شوقي بكل ما فيها من تأوُّهات ‏وتنهُّدات ومناجاة وملامة وروحانية عالية وحب. ‏
ولا تكتمل رحلة التطريب من دون مقام البيات الشرقي بكل ما يتملكه من حيوية وما ينطوي عليه ‏من حب وأشواق ولهفة، لذلك اختار منه محمود أغنية «ابعتلي جواب وطمني» من كلمات حسام ‏الدين الخطيب وألحان بكري الكردي، وأردفها بـ«آه يا حلو يا مسليني يللي بنار الهجر كاويني» ‏من ألحان داوود حسني، ليحقق تفاعلاً مبهجاً مع جمهور دار الأوبرا الذي شاركه الغناء ‏والتصفيق. ‏
ليختم حداد بـ«قلعة أمجاد العرب فوق ترابك يا سورية.. وبحروف النور انكتب اسمك بالعالي ‏سورية» من كلمات نزار فرنسيس وألحان سمير صفير، جاعلاً من الفخر آخر محطات أمسيته ‏التي تنقل فيها بين الموشحات والفواصل والأغاني الفلكلورية والصوفية، وعزز من خلالها ‏جماليات أدائه وقدرته على تطويع حنجرته على اختلاف القوالب والأنماط اللحنية والمقامات، ‏ووازاه في تلك الجماليات أداء الكورال المؤلف من تسعين من المغنين المميزين، إلى جانب فرقة ‏التخت الشرقي المطعمة ببيانو وغيتارين ملكوا ناصية العزف الأنيق الذي تبدى خلال الحفل ‏وأيضاً من خلال مقطوعة «بشرف فرحفزا» للملحن إسماعيل حقي بك بخاناتها وتسليماتها التي ‏سلَّمتنا إلى أبهى درجات الجَمال.‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار